+ A
A -
كرمة الفكر
النوستالجيا جمرة في الذاكرة، يؤججها الرحيل، ولا يخمدها رماد مراح السالي، لكن يطفئها.. الشنآن.
النوستالجيا هي نزهة في مروج الذاكرة وسياحة بين مدن الذكريات.
النوستالجيا هي سطوة الماضي المستحيل على عجرفة الحاضر الممكن.
النوستالجيا هي مادة تحصين نحقن بها واقعنا، لوقاية جزء مختار لآثارنا من الطمس.
للنوستالجيين ملامح نوستالجية باهتة ثم إنهم يعانون استيجماتيزم في البصيرة، فلا يستبصرون البعيد، كما انهم مصابون ببطء في البديهة؛ إذ يدركون الإجابات الصائبة فوراً بُعيد الخروج من قاعات الامتحان.
النوستالجيون يعيشون الحياة للأمام، لكنهم يستمتعون بها ويفهمونها بأثر رجعي.
النوستالجيون لديهم القدرة على الاعتراف بالندم وإبدائه دون الخوف من نعتهم بالفشل.
وندمهم مقرون بندوب نفسية من آثار جلد الذات على رعونتهم وفقر خبراتهم السابقة
والمُبهر حقًا هو استعدادهم للدفع نقدًا لإعادة عجلة الزمن للوراء
للشراء من دكاكين التحايا، أغلى وأجود أنواع «صباح خير» المخصبة بالحنان للتعاطي بها مع صغارهم.
وانتقاء أثمن، وأندى «ابتسامة» من مروج البساتين ليرتدوها لأكبادهم عوضًا عن أصواتهم الخريفية القادرة على الإطاحة بأوراق النشاط يوم كانوا يوقظونهم بـ: «قوموا، تأخرنا.. كل يوم نفس الموال».
النوستالجيون ظمأى لدموع طفولة، مراتعها كانت خاوية من الرفاق وعقيمة من العناق.
.. يوسوس الحنين للنوستالجيون بعبارات تقفز لأذهانهم في خطرات تتسارع كخطوات بلا اتساق، كوابل من المطر ينهمر أينما يحط وكلما شاء.
كمُخرج يدير لقطات متلاحقة لفيلم بلا «راكور» منضبط
فالحنين يشوش النوستالجيين بتداعي الصور وبتقاطر المفردات وتساقط المواقف فوق جمجمتهم
تحايا الجيران الرتيبة لدى مقابلتهم بالمصعد
مطبخ مدرستهم بالقبو.
ذكرى المذاق الأول للحم الغزال بمطعم بقرية بجنوب المانيا
لا مبالاة مربيتهم برائحة الكلور العالقة بملابسها
هريرة شقراء احتمت بسيارة رعبًا من تهزم الرعد.
ليلة مطيرة تشقق فيها برق لموع بشتاء سكندري، لاذوا خلالها بمقهى «البن البرازيلي»، فنما لهم أن رائحة البن أشهى من مذاقه
ماشية تتقوت من قاذورات مقلب قمامة.
خطين بلون قاني باختبار فحص الحمل.
صوت الضفادع المؤنس ليلاً بمدينة الإسماعيلية..
لا شيء يفسر تشبث الفكر بتلك المشاهدات، لا شيء يفسر لماذا تبرق بدون مقدمات.. ثم لا تلبث أن تختفي فجأة.
لا شيء يوضح لما تزور بلا دعوة، ولما تبرح بلا استئذان؟
للنوستالجيين أنين شجي يربك مقامهم في الأوبرا، فيخالون أنهم استمعوا لسيمفونية «رقصة جنية السكر» لتشياكفسكي بمقام الصبا الحزين.. وينصتون «لمتتابعة شهرزاد» لرينسكى كورساكوف، بمقام الحجاز.. ثم يجلسون في مقهى غربي فيتماهى «الجاز» بمقام الكُرد، وحتى «فور اليزا» يسمعونها معزوفة بمقام النهاوند
يبدو أن نصفهم الغربي يَحُن لنصفهم الشرقي، ليتكامل عالمهم. النوستالجيون يُخَّلِدون الذِكريات.. تُراهم يَخْلُدُون؟
كاتبة مصرية داليا الحديدي
copy short url   نسخ
13/04/2019
2753