+ A
A -
بغض النظر عن ما آلت إليه القمة العربية «النائمة» التي احتضنتها تونس الخضراء، أمس الأول، وعن حجم المشاركة ونوعية القرارات وآليات التنفيذ والتي من المؤكد لن تكون إلا حلقة مكررة من مسلسل طويل وهزيل ليس فيه إلا مشاهد الانقسام والتشرذم والهوان، حتى أصبحت هذه هي العناوين العريضة لحال الأمة العربية، بعد أن تفرّغ كبارها للاعتداء على جيرانها وطغت أنظمتها المستبدة في طحن شعوبها، وتسلطت بالظلم والقمع، فأضحوا صغارا في عيون العالم، وسهل الانقضاض عليهم، والنهش من خيراتهم، والسطو على أراضيهم، وهم يتفرجون، مستسلمين بشكل انبطاحي غير مسبوق.
ولكني سأتوقف عند هذا «التهريج» الصادر من صاحب التاريخ الأسود، والمواقف المعاكسة للقضايا العربية والإسلامية، المدعو أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية، والذي مازال الجميع يتذكر مؤامرته الدنيئة على القضية الفلسطينية، عبر التنسيق مع إسرائيل لضرب قطاع غزة في العام 2008، وتهديد أهلها، ولم يكتف بهذا الموقف الساقط أخلاقيا، والسافل سياسيا، بل إنه واصل بجاحته في العام الذي يليه بأنه من أفشل عقد قمة لإنقاذ غزة، انبرت لها الدوحة، وعواصم أخرى، اتسمت بالروح الإنسانية والمبادئ الإسلامية والصفات العربية، إلا أنه قام بالضغط على معظمهم لإكمال مخططه الخبيث بإيذاء القطاع وأهله، وكأنه كان وزير خارجية للكيان الصهيوني، وليس لجمهورية مصر العربية..!
أبوالغيط يمرر «اللغط» ويكرر «الغلط» ويبرر «العبط» من خلال موقعه الحالي كأمين للجامعة، وهو لم يتحل بالأمانة في نقل الصورة كما هي، فتبنى مواقف دولته، وتحدث بلسانها، متناسياً أنه يفترض أنه يمثل الجميع وليس طرفا أو محورا معينا.. بل إنه تحدث بشيء، وصدر البيان بشيء آخر، مما يعكس سوء «التخطيط» وحالة «التخبط» التي يعيشها.. فجاءت بياناته «شخابيط» وتصريحاته «خرابيط»، لا تمثّل إلا وزارة الخارجية المطلّة على النيل والجالسين على قهوة الفيشاوي في الحسين!
وليتك يا بو الغيط تحضر طاولة وكرسي ودفتر، وتجلس أمام صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت، وهو يتحدث بدبلوماسية راقية، وبمبادئ عربية ثابتة، لتدوّن الملاحظات وتتعلم الأساسيات في اتخاذ المواقف وسرد القضايا بأسلوب يمثل الجميع.
تعلم يا بوالغيط من أمير الإنسانية احترام الشؤون الداخلية للدول، وحسن الجوار، وضرورة مواجهة الظروف القاسية والتحديات التي تواجهها الأمة العربية، بالالتزام بتوحيد المواقف وتعزيز التماسك العربي وتجاوز الخلافات، وضرورة تطوير العمل التنموي المشترك، وليس من خلال ما ذكرت من مواقف تمثل البعض وليس الكل.
لذلك كانت كلمة الأمين العام للجامعة العربية أمام القادة المجتمعين في تونس محل انتقاد واسع، فهو خرج عن ضوابط وأحكام وآداب الحوار، وأحرج المجتمعين الذين يؤمنون بالحوار لحل الخلافات والاختلافات، وهو قبل هذا وذاك خرج عن دوره المرسوم، حيث حدد ميثاق الجامعة دور الأمانة العامة بتصريف الأمور الإدارية والمالية والسياسية للجامعة، وتعتبر الأمانة العامة بمثابة الجهاز الإداري، وتضم الأمين العام بدرجة سفير، يعينه مجلس الجامعة بأغلبية ثلثي الأعضاء لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، ولا يمثل أي دولة ولا يتلقى تعليماته من أي دولة.
ما فعله أحمد أبو الغيط، وما أثاره من «لغط» يعود أساسا إلى خروجه عن دوره، فهو موظف، وليس صانعا للسياسات أو مقررا للمواقف والأحكام، وكأنه بهذا الخطاب الركيك والمرتبك يمثل دولتين عرفتا بتوجيه التهم لتركيا، وتكنان العداء لأنقرة، ونقصد هنا أبوظبي والقاهرة، وهو ما فعله بالتحديد، دون تزكية أو توجيه من جانب الدول العربية الأخرى، التي تجمعها بتركيا علاقات دبلوماسية طيبة وطبيعية، فخرج عن الدور المرسوم، وواصل أداء الدور المسموم، وقال ما لم يوكل بقوله، تنفيذا لتوجيهات الخارجية المصرية، بعد أن تحول من وزير فيها إلى سفير لها في جامعة الدول العربية.
بالتأكيد، فنحن أمام محاولات تتحرك خيوطها من جانب دولتين، لفرض الفوضى والاضطراب وضرب القيم والأخلاق، وتدمير العلاقات السوية لصالح مخططات مشبوهة، لذلك كله حفلت كلمة أبو الغيط بالمغالطات، وتجاوزت ما يحق له أن يبديه من آراء، خاصة لجهة توجيه الانتقادات لتركيا دونما سبب مفهوم.
لقد كان لافتا للغاية أن تتزامن القمة واتهامات أبو الغيط ومن يقف وراءه، مع الانتخابات المحلية هناك، والتي عبرت عن ديمقراطية يبدو واضحا أن مصر السيسي وأبوظبي ابن زايد تحملان لها الكثير من الكراهية، خوفا من رياح التغيير التي لطالما حاربتاها، بدليل دعمهما ومساندتهما للانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في «2016»، ومع طي تلك الصفحة مازالت القاهرة وأبوظبي على عدائهما لتركيا وتصميمهما على الإساءة إليها، فاستخدمتا أبو الغيط في محفل عربي التأم وسط حالة غير مسبوقة من التحديات التي تحتاج إلى الحنكة والموضوعية والعقل الراجح، من أجل الخروج منها، والتغلب على تداعياتها، ولو كان أبو الغيط صادقا فيما ذهب إليه عن «تدخلات تركيا»، ألم يكن الأولى به أن يتحدث عن تجاوزات دول الحصار ضد قطر وتخطيطها لتدخل عسكري فج، تحت مزاعم باطلة، وادعاءات زائفة؟ أم أنه اختار الانصياع لأوامر أسياده، وليس لدوره وضميره كأمين عام.
كلمة أبو الغيط كانت نوعا من العبث السريالي، والسريالية كما هو معروف تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن، وهذا ما ظهر عليه الأمين العام وهو يلقي كلمة تعرض فيها لما يفوق حدود وظيفته كسفير، وتجاوز دوره بشكل سافر.
لقد حقق الاقتصاد التركي نموًا بنسبة 7.4 في المائة، العام 2017، ليتصدر بذلك دول مجموعة العشرين ويحتل المرتبة الثانية بين دول الاتحاد الأوروبي، في سرعة النمو، ووصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 3 تريليونات و104 مليارات و907 ملايين ليرة (تعادل تقريبا 776 مليار دولار)، وهي نتائج يتعين أن يقف أبو الغيط أمامها مليا، ويقارنها بما حققته الدول التي يأتمر بأمرها، عندئذ سيكتشف ربما حجم الخديعة التي وقع بها، وهو يحاول أن يرمي تلك الشجرة المثمرة بحصاته الصغيرة جدا جدا جدا.
أبو الغيط وما يمثله وجدنا له مثالا في مجلس التعاون، عندما أصبح أمينه العام أثرا بعد عين، مع اندلاع الأزمة الخليجية، واختار الانحياز لما تمليه عليه دولته والتي هي الأخرى تملى عليها التعليمات، فكان أشبه بطرطور فقد تأثيره منذ اليوم الأول للأزمة.
هذه عينات للعمل العربي المشترك، لذلك فشل مجلس التعاون، وأصبح عبارة عن «ملحق» في الرياض، وتديره أبوظبي، وصار «بيت العرب» أشبه بخيمة في مهب الريح.. أو «قهوة» على النيل !
وبدلاً أن يغير من الدور التركي النظامي والمتماشي مع الأنظمة السياسية والقواعد القانونية والقرارات الأممية.. كان عليه أن يسأل نفسه عن غياب الدور المصري عن الساحة العربية والإقليمية، حتى أصبحت مصر في عهده تابعا بلا عز.. وفي عهد من بعده باحثا عن الرز !
آخر نقطة..
بيان أبو الغيط وتصريحاته خلط فيها مواقف بلاده مع ما يفترض أنها رؤية عربية مشتركة للقضايا، وأراد تمرير بعض النقاط بأسلوب غير مقبول مهنياً ولا موضوعياً ومخالف لميثاق الجامعة العربية الذي ينص على ضرورة الإجماع العربي في تبني القضايا وليس على هوى الأمين العام أو مزاجه، فالمسألة مرتبطة باتخاذ مواقف مفيدة للدول وليس باختيار طبق كشري أو رز بلبن !
أبو الغيط يواصل مشاكساته بعيدا عن الأعراف السياسية وأسس العلاقات الدولية.. وبسبب تناقض أقواله مع أفعاله.. وتصريحاته مع بياناته.. احترنا في معرفة انتمائه، رغم عمره الطويل في هذه المهنة.. ومن أي مدرسة دبلوماسية تخرج وهل هو كما يدعي مع القوميين أم كما هو ظاهر مع التطبيع والمتصهينين، لكن الأكيد أنه بتهريجه يذكرنا بـ «مدرسة المشاغبين»..!
copy short url   نسخ
02/04/2019
5440