+ A
A -
بعد مرور 70 عاماً على إصدار كتاب (شروط النهضَة) الذي ألفه المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي وضمّنه رؤية شاملة لمشروع النهضة الحضارية، مازال الباحثون والعُلماء يجتمعُون من مشارق الأرض ومغاربها ليتباحثُوا حول هذا المشروع الشُمولِي الذي طرحَهُ ابن نبي، كان آخِرها المؤتمر الدولي (أسئلة النهضة) الذي نظمتهُ مشكورةٌ كُلية الدراسات الإسلاميَّة بجامعة حمد بن خليفة، فجمعَت على أرض قطر ولأوَّل مرة؛ باحثين وعُلماء ليتدارسُوا هذا الكتاب الثمين ويستشرفُون آفاق تطويره والانتقال به إلى مستوى مُستقبلي ينقُل أُمَّتنا من التناول الجُزئي العشوائي لمشكلات نهضتها إلى التناول العلمي نحو تحقيق السيادة والاستقلال والريادة الحضارية، واستعادة دورها الحيوي في المجتمع الإنساني العالمي.
يعتبر ابن نبِي وأفكارُه النهضويَّة الإصلاحيَّة؛ نتاجًا لأطول تجرُبة استعماريَّة خاضَها المجتمع المُسلم؛ هي تجربة الجزائر التي احتلَّتها فرنسا لأكثر من 130 عامًا، فانشغَلَ فقيه الحضارة مالك؛ بهذِه القضيَّة ومُعطياتِها وظروفِها ونتائجِها، ساعيًا لبلورَة الاقتراحات والحُلول والتوصِياتُ التي تكفَلُ إخراجَ الأمَّة الإسلاميَّة من هذا الاستعمار الذي استمَرَّ بها بعدَ جلاءهِ بشكلٍ خَفِيّ.
إنَّ كتاب (شُروط النهضَة) يأتي ضِمن سلسلة كُتُب (مُشكلات الحضارة) التي ألَّفها جميعًا وبشكلٍ متواتِر فيلسوف العصر ابن نبي، حيثُ تضُمُّ هذه مجموعة من الأبواب العريضَة التي ناقشَت سُبُل إصلاح الأُمَّة الإسلاميَّة والنُهُوض بها من جديد، وشملَت السلسلة العناوين التالية: مشكلة الثقافة، مذكرات شاهد للقرن، تأملات، من أجل التغيير، فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، القضايا الكبرى، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، الظاهرة القرآنية، فكرة كمنويلث إسلامي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، المسلم في عالم الاقتصاد، وجهة العالم الإسلامي، ميلاد مجتمع، في مهب المعركة، دور المسلم ورسالته. إذَن فهذه السلسلة وغيرها من المؤلفات البنّابيَّة هدفت إلى إيقاظ الشُعوب الإسلاميَّة من سُباتِها الطوِيل وقابليتها للاستعمار والاستسلام لوطأة المشكلات والتحدِّيات التي تُواجِهُها دون مواجهة حقيقيَّة وصارِمة لتذييلها والتغلُّب عليها، مُبيِّنًا أنَّ الإسلام ليس وسيلةَ من وسائِل تنويم الشعُوب الإسلاميَّة وإغراقِها في أمجاد العصر الذهبِي السالِف، بل إنَّ التقدُّم الجميل والفعّال إلى مرجعيته (القُرآن الكريم والسُنّة النبويَّة الطاهرة) أكبرُ سبيلٍ ودافِعٍ للحِراك نحو المُستقبَل المُشرِق والحياة الكريمة الطيِّبَة.
قارئِي العزيز، إنَّ الأزمة التي تهِزّ العالم الإسلامِي في أساسِها هي أزمةٌ حضاريَّةٌ بحتَة، ويكمُن حلُّها الوحيد في إنشاء حضارة إسلاميَّة مُعاصِرة متّكئَة على العقول والأيادي الإسلاميَّة، مستفيدة من الأراضِي والثروات التي حباها الله تعالى بها، ومنتفعة كذلك مما وصلت إليه الحضارات الغربيَّة في مختلف الميادين العلميَّة. فالحضارة الحقيقيَّة هي التي تبتدِع وتلِد وتخلُق مُنتجاتها، أمَّا الأُمم التي تستورِد منتجاتِها اللازِمَة من الحضارات الأُخرى فهي أُممٌ وحضاراتٌ مكَدِّسَة ومُراكِمَة وليسَت ولّادَةً وخَلّاقَة، فالاستهلاكُ تكاسُلٌ وجمودٌ وعجزٌ وعُقم، والإنجازُ والابتكار بحاجَةٍ إلى عملٍ مدروسٍ ومُخَطَّطٍ تتفاعَلُ فيه مكوِّنات الحضارةِ الأساسيَّة (الإنسان، التراب، الزمن، والفكرة الدينيَّة) بالشكلِ الصَحيح والمُنتِج. كما أنَّهُ يجِب على الحضارة الإسلاميَّة المُعاصِرَة أن تَتَفتَّحَ وتتعايَشَ مع الحَضارات العالميَّة الأُخرى وأن تكسِرَ جُمودَ التقوقُع والانغِلاق؛ آخذةً بمبدأِ الأخذِ والعَطاء، لا الأخذَ وحدَهُ، وهذا يتطلَّبُ التفاعُلَ والانفعَالَ معًا، الحاجَةَ والمُبادرةَ معًا. وهذا ما نرجُوهُ جميعًا، والعمل نحو بناء الحضارة الإسلاميَة الذهبيَّة من جديد عملٌ مضنِي، إلا أنَّهُ بالتوكُّل على الله والعمل وفق منهجِه الإنسانِي العالمِي العظيم والتخطيط والتسديد السليم؛ فإنَّهُ سيتحقَّقُ قريبًا بإذن الله تعالى.

خولة مرتضوي
إعلامية وباحثة أكاديمية- جامعة قطر
[email protected]
copy short url   نسخ
08/02/2019
2656