+ A
A -
من قديم الزمان والثقافة الإنسانية تعتقد أنه لا توجد أقطاب كبرى في النظام الدولي تظل خالدة، وإن انهيارها تباعا حتمية تاريخية يبدو أنه لا فكاك منها، وأنه لا توجد حضارة يمكن أن تلقب بأنها حضارة نهاية الزمان، كما روج لذلك مفكرون كبار مثل فوكو ياما وغيره، فالإمبراطوريات تشيخ وتهرم وتتوكأ في أواخرها على سيرة سنوات شبابها الذي كان، فتجتر ماضيها بأكثر مما تخطو إلى المستقبل.. ومن أهم فرسان الاجتماع السياسي الذي تحدث عن ذلك ابن خلدون، ولهذا حينما انهارت الامبراطورية الحمراء في الاتحاد السوفياتي سابقا كان السؤال الذي يطرحه البعض من خلف الأكمة: هل يتصدع الغرب بالمثل أيضا، طالما أن انهيار الأقطاب حتمية تاريخية ومصير لابد منه؟ وهل سيحل على الغرب الدور والمصير ذاته الذي انتهت إليه امبراطورية السوفيات الحديدية المترامية الأطراف، وهل يحل يوما تشهد فيه البشرية صعود قوى بديلة فيتغير النظام الدولي الثنائي القطبين؟
حقيقة الأمر أن عالمنا الراهن يشهد ظاهرة ثالثة غير ظاهرتي حتمية انهيار الأقطاب والامبراطوريات الكبرى، وحضارة نهاية الزمان، وهذه الظاهرة الثالثة تبدو لنا أن الكبار يمرضون ولكنهم لا يموتون، وإن هذه الأقطاب الكبرى نراها تجدد مثل النسر شبابها، فواقع النظام الدولي الراهن نراه يدحض ما ذهب إليه فوكوياما وكذلك ما تحدث عنه ابن خلدون، فالاتحاد السوفياتي وإن تفكك وانهار إلا أن الروس خرجوا من عباءته وجغرافيته السياسية التي تشرذمت بإصرار على بناء دولة جديدة تسترد قوتها وتعود مجددا إلى حلبة السياسة الدولية بذات قوتها السابقة بل وأكثر منها، وأن الأميركيين حينما استشعروا أن قطبيتهم الأحادية على قمة النظام الدولي تتواجه مع منافسين طموحين، ظهرت الترامبية التي تدعو إلى: «أميركا أولاً» وتدير ظهرها للعولمة من جهة وللحلفاء الكلاسيكيين من جهة ثانية، بينما عز على البريطانيين أن توصف بلادهم بأنها الامبراطورية التي غربت شمسها فقرروا انتهاج البريكست والطلاق من الاتحاد الأوروبي للشروع في مسار مستقل تستعيد فيه بريطانيا سابق مجدها.
وها هم الروس يشهرون تحديهم وعودتهم إلى قطبيتهم بإعلانهم عن قدرتهم على شن حرب أعالي البحار المتجمدة في مواجهة حرب النجوم الفضائية الأميركية التي أحدثت دويا كبيرا أفضى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي سابقا.
حرب أعالي البحار المتجمدة التي أماط الروس عن لثامها تعتمد على الغواصة الروسية الجديدة «بوريى»، التي تستطيع بطلقة واحدة منها «محو» أي دولة من على وجه الأرض، وإن «بوريى» قادرة على البقاء في قاع المياه الباردة لمدة 600 يوم دون تحرك، كما لا تستطيع أجهزة الرادار تتبعها، وأن هذه الغواصة ستكون إحدى أدوات العقاب التي ستستخدمها روسيا في حالة العدوان الأميركي عليها لدى نشوب حرب عالمية ثالثة.
الصين من جانبها تسرع الخطى بإتقان وجدارة لتأكيد جدارتها بقطبية دولية فاعلة ومؤثرة في النظام الدولي، ونجحت الصين في إنتاج طائرة شبح منافسة لنظيرتها الأميركية.
أما أوروبا فسيتعين عليها أن ترتب وحدتها على عجل، كما طالب بذلك وزير الاقتصاد الفرنسي حينما قال إنه لا حل أمام الأمم الأوروبية سوى الوحدة أمام غزو الصين التكنولوجي وسياسات الولايات المتحدة غير المبالية و«العدائية» تجاه أوروبا، وكما دعا كل من الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل إلى تكوين جيش أوروبي موحد.
من ذلك قد يبدو أن الغرب الرأسمالي يتصدع ويتفكك إلى ثلاث قوى هي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والامبراطورية البريطانية التي مازالت تتعثر في طلاقها من الاتحاد الأوروبي، ولكن الغرب في واقع الأمر يعيد ترتيب اصطفافات جديدة بمواجهة نظام دولي مختلف عما كان وأصبح متعدد الأقطاب.
بقلم: حبشي رشدي
copy short url   نسخ
07/02/2019
1379