+ A
A -
من المدهش فعلاً أن الناس (قبل ظهور الدول بمفهومها الحديث) لم يكونوا يعانون من البطالة لسبب بسيط جدا.. لأن مفهوم العمل أو التوظف (عند الغير) لم يكن سائداً أو مقبولاً بحد ذاته.. كان الجميع يملك مهنة أو حرفة تتوارثها الأسر بحيث يخرج الشاب لسوق العمل بصنعة أو مهنة تغنيه من الفقر.. حتى يومنا هذا تجد في الحجاز أسماء لأسر تدل على تخصصها المهني القديم مثل بيت الحداد والنجار والطحان والعطار والخراز والقزاز والخازندار.
حصل الخلل حين استبدلنا المهن والحرف بالوظائف الشهرية والشهادات الأكاديمية.. والنتيجة التي حصدناها متأخراً خلق جيل غير مؤهل حرفياً أو مهنياً يبقى بانتظار من يقبل يوظفه ويمنحه دخلاً شهرياً.
العنصر الذي أراه غائباً عن أذهان الباحثين عن العمل يتلخص في مبادرتهم بخلق وظائفهم من العـدم.. هذا ما يفعله 98% من شعوب العالم لدرجة تشتكي حكومة هونج كونج من عزوف الناس عن وظائفها المكتبية.. تتحمل العائلة والمجتمع خطأ تربية أبنائنا على فكرة (التوظف لدى الغير) وليس المبادرة إلى بدء مشروعاتهم الخاصة وبالتالي توظيف الغـير لصالحهم.. في طفولتي كانت مدارس المدينة المنورة تخلو من طلابها الذين يغيبون خلال مواسم الحج والعمرة لبيع كل شيء على الحجاج والزوار.. كانوا يبيعون الـتمور والتين والزيتون والأقمشة والكتب والأشرطة وتحويل العملات، وكنت شخصياً أملك مكانا ثابتاً لبيع الثلج والمشروبات الغازية.. كنا حينها جيلاً يتأرجح بين المسار الأكاديمي والمسار الحرفي وكان من الصعب علينا التركيز على مسار واحد فقط (وهو ما كان يتسبب بموجات غياب جماعي في مواسم الحج والعمرة).. غـير أن المسار الأكاديمي هو الذي طغى في النهاية فأصبح الجيل التالي يملك شهادات دراسية ولكنه لا يعرف ببساطة كيف يحصل رزقه بنفسه.
من كل هذا يتضح أن مفهوم (العمل لصالح الغـير) يعد اختراعاً حديثاً في تاريخ البشرية.
حديثاً لأنه منذ خلق الإنسان على وجه الأرض وهو يعمل لنفسه وبنفسه وفي الزمن والوقت الذي يناسبه.. كان يمارس مهنة الصيد والرعي والالتقاط في الوقت الذي يناسبه، ثم يقضي بقية يومه في الاسترخاء «والدردشة».. وهذه العادة نلاحظها حتى اليوم في المجتمعات الزراعية والقروية، ومع هذا لا يمكن الادعاء أنهم يعانون من البطالة.
أما هذه الأيام فتطورت معظم المجتمعات البشرية لدرجة أصبح معظم الناس (من سكان المدن بالذات) يعملون لصالح مؤسسات كبيرة ضمن دوام رسمي محدد. وهذه الظاهرة تعتبر حديثة وطارئة في حياة المجتمعات لدرجة أن معظم كبار السن لدينا ما يزالون يحملون مهنة «متسبب».
والمقارنة بين الزمنين تثبت أن البطالة (التي يعاني منها شبابنا هذه الأيام) مشكلة ذهنية وتربوية أكثر منها اجتماعية أو تنظيمية.. تثبت أن مفاهيمنا تغيرت بعد طفرتي النفط وأصبحت المهنة تعني العمل لدى «الدولة» من السابعة صباحا حتى الثانية ظهراً، حتى تحول الدوام ذاته إلى بطالة مقنعة وهروب متواصل، بحجة الفطور والكبسة وتأدية الصلاة والخروج للمدارس.
الحقيقة التي يجب أن نعيد غرسها في أذهان أبنائنا (ونعلمهم إياها في المدرسة) هي أن العمل لدى الغير يـُـبقي الإنسان ضمن دخل مادي ضيق يُغـلق عليه فرص الثـراء والتوسع.. في أن لـلـوظيفة آثـارا مدمرة على الفرد والمجتمع (وابحث عن مقال: أضرار الوظيفة الحكومية على الفرد والمجتمع).
... وإن كان الموضوع يهمك فعلاً ابحث أيضاً عن مقال: من يعرف حضرمياً عاطلاً عن العمل!!

بقلم : فهد عامر الاحمدي
copy short url   نسخ
11/06/2016
2609