+ A
A -
غريبٌ أَمْرُ مَلْعَب السياسة! بين الْمُدافِع والهَدَّاف، يَضيع حقّ المتفرج باعتباره الخاسر الوحيد، وتُؤَجَّل الأهداف، إلى أَجَل غير مُسَمّى.. في الجامعة السياسية، كُلٌّ يَطلب رزقَه، لكن بينه وبين نفسه يَظَلّ قلبُه متأهِّبا للقفز مِن مكان إلى مكان، تحت وطأة الخوف مِن ضَربةِ القَدَر الآمِر بالسقوط في الامتحان.. في فرنسا مثلا، ها نحن نَشهد فترةَ موسم الربيع الأصفر الذي صَفَّقَتْ لمجيئه السترات الصفراء تلك الرافضة رفضا قاطعا أن تُنْشَرَ على حبل الغسيل، إذا هي سَمَحَتْ بالْمُكوث الطويل لِمَنْ لا يَتَكَيَّف مع مِزاجها في أنْ يُمَثِّلَها أحسن تمثيل.. إيمانويل ماكرون الذي يجتاز أصعب امتحان، في تاريخه السياسي، ويَجتهد الآن في أن يَحفظَ الْمُقَرَّر، بعد أنْ أَخْلَفَ وتَأَخَّر، لم يَنجح في استمالة أصحاب السترات الصفراء المحتجين على عدم إرضائه لهم بنظامه رغم فاصِل الصبر الطويل الذي لا يُعادِلُه سِوى طول أنفاسهم وَهُمْ يُرَشِّحُون نُفوسَهم لدور البطولة في مسرح داخل المسرح: مَسرحهم هُم وهُمْ يُفَصِّلون الْمَشاهد الاحتجاجية تباعا في المسرح الكبير الذي لا يَخرج عن حَلَبَة سباقِ خيول الربيع تِلك التي تَعِدُ بِكَسر الحاجز تلو الآخَر لتجديد دماء الهزائم والانتصارات.. الجفاف الذي قد ضَرَبَ سابقا سياسةَ ماكرون وهو يَنْأَى عن خُبز المواطنين البُسَطاء ها هو الرئيس يُرَطِّبُه ويَدهنه لِيَبْتَلِعَه مَنْ يُمَثِّلُون هذا الْمُوَاطِن البسيط مِن صُناَّع الثورة الصفراء.. ماكرون يَتَفَوَّق في أنْ يُجَرِّبَ وصفاتِ الترطيب لِيَسْتَدْرِجَ إلى صَفِّه الْمُشَتَّت مَن يَراهُم مشاغبين باحتجاجاتهم التي لا يُعْرَف مَصدر النار التي تَنفخ فيها.. ماكرون الآن يَنظر إلى الأمور بِعَيْن الحكمة، ويُفَضِّل سياسةَ ضبط النفس على أن يَردّ على المحتجين بِفَصْل رؤوسهم عن أجسادهم بمنشار أو إذابتهم في حمام حِمض الأسيد للتخلص مِن «صداع الراس».. الرئيس الشابّ ماكرون، الوسيم، يَستجيب بوعي سليم لِمَطالِب رُموز الزَّحْف الأصفر قبل أن تَتَفاقَمَ الأُمور وتَخرج عن نِطاق السيطرة.. ماكرون بهذا يُصَيِّرُ نَفْسَه مَضرب الْمَثَل في حِرصه على التضحية مِن أجل استمراره، التضحية بأيّ مسطرة قانون كان قد سَطَّرَها لبؤساء فرنسا، دون أن يُبَيِّتَ أدنى نِية في نَيل تعويض من الأثرياء.. صنبور التنازلات الذي فَتَحَه ماكرون هَدَّأَ شيئا ما مِن رَوع الجنود الصُّفْر الذين رَفَضوا ثقافةَ الانكماش والتَّقَلُّص ومُقَرَّرات تَسْوِية الأمور بطريقة «شاهد ما شافش حاجة»، وجَنَّدُوا نُفوسَهم لإعادة كتابة بُنود مِن دستور فرنسا في ضوء ما تُمليه الثورة، مع أن قِراءة أخرى في الحَدث تَقول إنَّ واقعة التفجير الإرهابي الذي شَهِدَتْهُ ستراسبورغ زَرَعَت الخوفَ في نفوس الفرنسيين الصُّفْر وجعلَتْهم يَقطعون خطوة إلى الوراء تَحَسُّباً لأيّ مَدّ إرهابي آخَر قد لا يَخطر على بال، مع أنهم قد يَبحثون بِحُكم الفضول عن خيط رابط بين حركة الْجَزْر التي شَهِدَها البحر الأصفر (نسبة إلى السترات الصفراء) أوانَ تَراجُعِه وبين التوقيت الذي حُدِّدَ لضربة ستراسبورغ.. الموقِف يَرسم أكثر مِن علامة تعجُّب واستفهام، غير أن العاقِل بطبيعة الحال لا يَأمل أن تُسوَّى الأمور على حساب المهاجرين الذين قد يُدانُون مِن جهة السلطات الفرنسية بِتُهمة زعزعة أمن فرنسا واستقرارها.. هؤلاء المهاجرون سَيَظَلُّون يَفْتَقِدُون قلبَ أنجيلا ميركل أُمّهم الحنون.. ميركل تَسرق الأضواء بقلبها الكبير وبتواضعها وخبرتها في خطف القلوب إعجابا بها هي الغنية ببساطتها وبحُبّ الآخَرين واحترامهم لها.. امرأة بسيطة، مُتَّزِنَة، متصالحة مع نفسها، حكيمة، يَشهد لها التاريخ بِتَدَفُّق عطفها على اللاجئين وبِدَورها في بلوغ ألمانيا أزهى عصورها في ظل قيادتها الرشيدة كمستشارة لبلد يُعرف بأنه من البلدان الأقوى عالميا على مستوى الاقتصاد.. مواقف أنجيلا ميركل الْمُشَرِّفة يَكتبها التاريخُ بماء الذهب، وماتزال المرأة منذ أَلِفْنَا صورتَها في القنوات تترفع عن التفاهة والقشور، ولا تُكَلِّفُ نَفْسَها على مستوى الثياب، ولا تُفكر في أنْ تُنْفِقَ، بِجُنون، على عمليات التجميل التي تَتَصَرَّف في خريطةِ وَجْهِ امرأةٍ بِمَلامِح «عَبَّاس» لِتُحَوِّلَه إلى «مَيْسُون».. امرأة كانت تَحكم العالَم وتُديرُه بحركة أصبع ها هي تُغادِر قُبَّةَ مؤسسات الحكومة وتُوثِر الابتعاد عن منطقة الضوء لِتُمارِس حياتها الطبيعية آمنةً دون حاجة إلى سَقْف متنقِّل يَحجب عنها مطرَ ورصاص الإدانة واللوم والتأنيب، وما هذا السقف سِوى حُرَّاس الأمن الشخصيين الذين يَتَلَحَّف بهم مَنْ لن يَرحمهم تاريخُهم الأسود الذي يُمِيتُهم في الظلام مَيْتَةَ الجرذان.. خسارة يَتجرَّعها اللاجئون والمهاجرون الذين كانت لهم أنجيلا ميركل بمثابة الأُمّ الروحية التي دافَعَتْ عنهم بحرارة.. وحدها العَمَّة ميركل النملة النشيطة تتصرف بحكمة نجمات السينما الذكيات اللواتي يَتَوارَيْنَ عن الأضواء قبل أن تَزهد فيهِنّ عدسةُ الكاميرا.. لذلك تَعتزل أنجيلا ميركل بمحض إرادتها وهي في كامل نجوميتها.. ما أكثر مَنْ تُحْرَق أوراقُهم في لعبة السياسة! لكنهم مع ذلك يَستميتون في تأجيل انسحابهم وتحديد نهاية اللعبة، ويَتحايلون على أيّ رغبة في طردهم.. يااااااا صُنَّاعَ الدراما السياسية، تَعَلَّمُوا مِن العَمَّة ميركل.. نافِذَةُ الرُّوح: - «وردةٌ تُوَشْوِشُ في أُذُنِ وردةٍ: انظُري يا رفيقتي، بِتْنا موضوعَ تَغَزُّل النَّحْل الشَّقِيّ ههههههه». - «شيءٌ مِن العِطر يُسْكِرُ». - «فستان الورد يُفَجِّرُ أُنوثةَ الطبيعة». - «لن أَسْمَحَ لهذا الشتاء بأن يُحاصِرَ عِطرَ وردة». - «شِفاه الورد لا تَذبل فيها كلماتُ الحُبّ». - «يَقول الوردُ: الْمَجْدُ للنَّدى، بَلَّلَنِي حَدّ أنْ مَسَحَ سطورَ ما كَتَبَهُ الْجُرْحُ». - «أَمْهِلْنِي شيئا مِن النَّدَى، يا وَرْدَهُ، لِأُعِيدَ تَرْتِيبَ قَصيدتي».
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
17/12/2018
2825