+ A
A -
إنه الثلاثاء الأسود! وأنا بَطَلَتُه! لم أُغادِرْ فِراشي إلا بصعوبة لِأَتَجَرَّعَ شيئا مِن الماء، مُنْذُ التاسعة مِن مساء الاثنين إلى التاسعة مِن مساء الثلاثاء! مَن يُصَدِّق أن جسمَ الـ«1.74/74» رَفَضَ الماءَ والطعامَ بِشكل كُلِّي، وأَقْسَمَتْ مَعِدَتي ألاَّ تَحْتَفِظَ بشيء.. نَذرْتُ مِائةَ درهم لله على أن أَتَصَدَّقَ بها بِمُجَرَّد أن أَقْوَى على العمل، وقاوَمْتُ الألمَ لنِصف دقيقة حتى أتَّصِلَ وأُعْلِمَ مُديرةَ عملي وأعتذرَ عن عدم الحضور لِتَبْحَثَ عن أستاذ بديل لِكُلّ مستوى مِن المستويات الثلاثة التي أُدَرِّسُها بحرارة وحُبّ رغم صعوبات العلاقة مع العُنصر البَشَرِي.. لا شيء كان يُحَلِّي هذا الثلاثاء الْمُرّ سِوى حَنان أُمِّي وأبي ونِصفي الآخَر.. تَأَمَّلْتُ الوضعيةَ، شكرْتُ اللهَ على المحَبَّة التي يكنّها لي مَن أُبادِلُهم الحُبَّ.. شكرْتُ اللهَ على نعمة الصحة التي أَعبثُ بها بِسَهَري يوميا إلى ما بعد الثانية والثالثة صباحا.. لم أَسْتَغْرِبْ وأنا في ذروة وَهَنِي أُذَكِّرُ نَفْسي بِدَرْسٍ تَعَلَّمْتُه مِن دروس الْمُعَلِّم الأول محمد عليه الصلاة والسلام، إنه دَرسُ التأمُّل.. نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم مَدْرَسَةُ تأمُّلٍ مُحَمَّدِية لن يَجودَ بِسِواها التاريخ، فقد انتهى زمنُ المعجِزات.. وانظروا ماذا كان يَفعَل نَبِيُّنا محمد قبل زمن النُّبُوَّة عندما كانت قريش غارقة في عبادة الأوثان ومنشغِلة باللهو والهوى! كان محمَّدُ عليه السلام يَخْتَلِي بنفسه في غار حراء، وكان يَلَذُّ له أن يَتَأَمَّلَ ما حَوْله ومَن حَوله، يتأمل بَني قريش، وأحوالَهم، وحالَه، يتأمل الفراغَ الذي لم يَجدوا كيف يَصِلون إلى مَلْئِه، وفي عِزّ هذا التأمُّل الذي كان يَسْتَدْرِجُ محمَّدَ، صلى الله عليه وسلم، لَيْلاً إلى مَلْجَئِه الروحي «حِراء»، نَزَلَ الوَحْيُ.. ولأنه عليه السلام كان شديدَ التأمل، فقد كان بالْمِثْل بالغَ الحِكمة، كأنه يَقول لنا باللامُبَاشِر: اِلْتَمِسُوا الحِكمةَ في التأمُّل.. أتذكر حديثا عابِرا مع سائق سيارة أُجْرَة أُصِيبَ بِذُهول حين وَجَدَني ألْفِتُ انتباهَه إلى لوحة تشكيلية مُبْدِعُها الخالق جلَّ وعَلا، رَوعة تُجَسِّدُ مَشْهَداً طبيعيا لن يَتَيَسَّرَ لِكُلّ فَنَّانِي العالَم التشكيليين الاِتْيان بمثله، لوحة في السماء تُسابِق الغروبَ وتَقِفُ فيها الشمسُ مُسْتَحِيةً وقُبالَتَها قَوسُ قزح يَنساب كالشلال وغيومٌ رشيقة تَتَنَافَسُ في عَرض جَمالِها الآسِر وتَحتها الجبال الشاهقة بِبِساطِها الغَابَوِي المتمدِّد كزربية ترُكية.. قلتُ: سبحان الله! ووَجَدْتُني أُعَبِّر عن إعجابي بِعَفويةِ عاشقةٍ للوحات، وأنا أنطلقُ في كُلّ هذا الوصف البديع مِن دَرْسِ التأمُّل المحمدي.. فتَساءَل السائقُ بإلحاح: «أَمازالَ في الدنيا مَنْ يُبْصِرُ ويُثَمِّنُ كُلَّ هذا الجمال الإلهي! لقد عَلَّمْتِنِي دَرسا لَا يُنْسَى».. حتى لا أَجْرَحَه تَفادَيْتُ أنْ أقولَ لَه: «يَنْقُصُكَ أن تَفْتَحَ عَيْنَيْكَ لا أكثر»، وانشغلتُ بِتَأمُّلِ اللوحةِ السَّماوِية.. فكُلّ دلائل الإعجاز الرَّبَّاني وكُلّ فِعل محمدي يَسْتَحِقَّان مِنَّا الإخلاصَ للتأمُّل، وما التأمُّل إلا بداية الطريق إلى باب الحكمة.. {{{ كَتَبْتُ مقالي بعدَ أذان العشاء مِن مساء يوم (الثلاثاء) في مُذَكِّرَة الهاتف بعدَ أن حَوَّلْتُ مستوياتِ إنارته إلى درجتها الدُّنْيا حتى أُخَفِّفَ مِن وَطْأَة الصُّداع وأَلْتَزِمَ بِمَوْعِد لقائي مَع قرائي كل خميس.. مع الوِدّ. نافِذَةُ الرُّوح: - «مِسْكين يا وَرد! هَجَرُوا عِطْرَكَ، وتَرَكُوكَ تَبكي نَدىً». - «قُلتُ للورد: لا تَنْحَنِ لِمَنْ يَزهد فيكَ». - «مِن حَقِّ الورد أن نَثْأَرَ له». - «لا يَفْهَم الوردَ إلا الوردُ». - «لا مُبالاتُكَ بالورد شوكةٌ تَجْرَحُ الورد». - «ثقافةُ الورد ما يَنقص طُلاَّبَ مَدْرَسَة الإتيكيت». - «لا يَشْفَع للصَّفْح عَنْ جريمة في حَقّ الورد إلاَّ الورد».
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
13/12/2018
2964