+ A
A -

نَغَمٌ شَجِيّ يَعبر بِكَ شواطئ الليل الأَسْيان، يُرْدِيكَ أسيرَ الشوق إلى جَنَّتِكَ المفقودة أنتَ سَيِّد الظَّمَإ الوَلْهان، وتَنسى في دجنة هيامك الروحي كل شيء ماعدا عناقيد الشِّعر الواعدة بنشوة مؤجَّلَة..
جَرَّبْنا أن يَشحب وجهُ السماء قُبَالَتَنا ويَرحل بحرُ الخير ويَذبل الورد في عيوننا، لكننا لم نُجَرِّبْ أن يُزْهِرَ الشَّرُّ أو يُثْمِرَ الشوكُ أو يَلين الصّبار ويَحلف أن يَبتلع أشواكه ويَسحرنا بِمَلْمَسِه الحريري كما قد تَسحرنا أصابع مُدَلِّكة تَأْسِرُنا بِحَنان لمساتها الدافئة تلك التي تُعيدنا إلى سِيرتنا الأولى..
لكنَّ هذا القِدِّيس الصغير، هذا الثائر في أعماق الشاعر بودلير (شارل بودلير CHARLES BAUDELAIRE)، يَرى ما لا تَراه العيون، فإذا به يُسْكِرُنا (سُكْراً مُباحاً) بما تَقُوله مِرآتُه، ويُذيبُنا شَوْقاً إلى ما تَعترِف له به كبيرةُ شياطينه أو فَتاتُه، ولِكُلّ شاعرٍ مُلْهِمَة يَحترق وَلَهاً بما تُغْدِقُ عليه مِن ثمار موسيقى المعنى الداخلية المضيئة تحت مظلة الكَلِمَة..
لِنَقُلْ إنها «أزهارُ الشَّرّ»، أو لِنُسَمِّها فاكهةَ مواسم بودلير الشِّعرية..
مساحة اشتهاءات بين الوجود والعَدَم تَحرسها غيمةٌ يَزفّها النَّدَم كَأَوَّل ما تُزْهِر به شجرةُ بودلير الراكعة لِـ«لا» والصَّافِعَة لِـ«نَعَمْ»:
«آثامُنا عنيدة ونَدَمُنا جبان
ونحن نَدْفَع غاليا ثَمَنَ اعترافاتنا
ونَخوض طريقَ الوحل مُغْتَبِطين
ونَعتقد أننا بالدموع نَدفع ثَمَنَ أخطائنا
وعلى وسادة الشَّرِّ يُهَدْهِدُ الشيطان روحَنا المسحورة
ويَجْتَثُّ مِن نفوسنا معدنَ الإرادة النفيس
ويُمْسِك بالخيوط التي تُحَرِّكُنا نحو ما يعاف
مِن الْمُغريات، وفي كل يوم نَهبط
لِنَقترب خطوة مِن جهنم..
تُختلس المتع الخفية ونَحن نَعبر الحياة
ونَعتصرها عصر برتقالة ذابلة
وتُعَرْبِد بأدمغتنا حشودُ الشياطين..
وعندما نَستنشق الهواءَ يَتسلل الموتُ إلى صدورنا
كنهر خَفِيّ يُطْلِق أَنَّاته المجنونة» [بودلير، أزهار الشر، ترجمة: حنا الطيار، جورجيت الطيار].
لِنَنْظُرْ إلى هذا الطفل الشَّقِيّ الْمُسَمَّى بودلير وهو يُصَيِّرُ النَّدَمَ ساحةً يستلقي فيها بعد أن خسرَ حصانَه في معارك الزمن: معركة الروح، معركة الحياة، معركة الوجود، معركة الإنسان، معركة الحُبّ، معركة النفس..
«أنتِ يا نفسي تَندفعين بِخِفَّة فوق المستنقعات
والأودية والجبال والغابات
فوق الغيوم والبحار وراء الشموس والأثير
وتَشُقِّينَ كالمحراث، وكَسَبَّاح ماهر تُطْرِبُه الأمواج..» [بودلير، أزهار الشر].
بين النفس والندَم يَرسم لنا بودلير قصيدةَ ماضٍ ما كان بِفَاتر، ماضٍ أبى إلا أن يَحمل قُبَّعَتَه ويُغادِر، لكنه الندم، الندم يَجعل الشاعرَ يتآكل تحت سقفه، وقد كان الشاعر إلى حضن الأمس يَتُوق تَوْقاً عساه يُرَمِّم بيتَ حياةٍ ما أنصفَتْهُ، جَلَدَتْهُ جَلْداً بِسَوط البؤس..
إن قلبَ الشاعر يَمضي كعطرِ وردةٍ لا يَعرف لِمَنْ يَضُوع، تَنثر هي الأريج وتَهيج، تَهيج حنينا إلى مَنْ يُقَدِّرُ العطرَ في غير زمن العطر، فما حاجة العطر إلى أن يُغَنِّيَ مَوَّالَه تحت ثرى الوحشة النائلة مِن الحواس والقاتلة للإحساس؟!
«أكثر مِن زهرة تُريق عطورَها المنعِشة
في الخفاء على الأماكن الموحِشة» [بودلير، أزهار الشر].
الترفُّع أعزُّ ما يُطْلَب بالنسبة لشاعر في مقام بودلير، شاعر أَرْهَقَه السَّفر بنفسه الحُبلى بالإيمان بما تَكونُه أو ستَكونُه. لذلك آثَرَ صاحبُنا بودلير إلا أن يُنَزِّهَ نفسَه عن التمرغ في وحل ما تحت القدمين:
«طِيري يا نفسي بعيدا عن هذه الروائح الكريهة
واذهبي وتَطَهَّرِي في الفضاء الواسع العالي» [بودلير، أزهار الشر].
إنه التطهير الذي يَفرضه ما وراء الروح على الروح، هو نوع من النقاء الروحاني ذاك الأقرب إلى وِلادة جديدة في حياة ثانية.. ولْنَقُلْ إنه الصفاء ذاك الذي يُغَلِّفُ الوجودَ الافتراضي كما يُصَوِّرُه الشاعرُ لنفسه..
لكنْ مِنْ أين للشاعر بكل هذه القسوة حتى يُجيدَ مدحَ نفسه بما تَكونُه حقيقةً؟!
«إن نفسي قبر أطوف فيه وأُقِيم منذ الأزل
بثياب راهب ضالّ» [بودلير، أزهار الشر].
هل هنا يُمَجِّدُ الشاعرُ موتَه؟!
أم نَراه يُكَفِّنُ حياتَه الحالفة ألا تَحفر لنفسها حفرة تَسترها؟!
أم يَذهب أبعد مِن ذاك وذلك لِيَتَغَزَّلَ بموتِ الحياة في قلبه العارف أنَّ ما مِن جدوى أو فائدة تُذْكَرُ للموت والحياة؟!
في بحثه الدؤوب عن لقاء في مُدُن الضوء والإشارة، لا تَخون الشاعرَ العبارة، وبالْمِثْلِ لا تَنقصه الخبرةُ والمهارة، وأيّ مهارة؟! إنها تلك التي لا تُدْرَكُ إلا على طريقة المشايِخ وصُنَّاع الطريقة..
قِمَّةُ الحكمة في الكلام أن تَصمت، لكن الشاعر بودلير لا يَتكلم ولا يَصمت. إن كلامه القليل يتراءى لنا أقرب إلى معزوفة صمت، لكنه الصمتُ نفسه الذي يَشتعل له الشاعر ويَتَصَبَّبُ إليه شهوةً:
«ما أسعد مَن يُحَلِّق فوق الوجود
ويَفهم دون كبير عناء
لغةَ الزهور والأشياء الصامتة» [بودلير، أزهار الشر].
لهذا نَرى الشاعر لا يخفي مَيْلَه إلى الطيران بلا أجنحة رغبةً في الالتحاق ببيوت السماء تلك التي فيها يَعزّ البقاء، فإليها يَحِنُّ الساكن الراغب في وصلة الصمت، وإليها تتصاعد عبِقَةً أذيالُ الزهور وكلها اشتهاء لموعد تَرتفع له نداءات المتحرك المقيَّد بأصفاد مُغَلَّفة بصرخةِ مفردٍ بصيغة الجَمع..
الشقاء قصيدة طويلة تَرقص فيها الحروف المبتورة على عَزْفِ كمان سَقَطَتْ أوتارُه في حربٍ باردة أَبَّنَتْ فيها النفسُ أنفاسَها.. إنه موسم البؤس! ولا شيء يُخَبِّئُ للشاعِر وداعاً مع ذاكرة الحضور أكثر مِن بؤس الحياة..
فإلى أين يُوَجِّهُ الشاعرُ بوصلةَ قلبِه مِنْ ثمة؟!
ولِمَنْ أَضْحَى يَخْفِق ويَقْرَع الأبواب؟!
وأيّ الدروب تَليق بقلبٍ كَفَرَ بمضَخَّتِه الزاهد فيها الطُّلاَّب؟!
«إن قلبي يَسير كالطبل الْمَبْحُوح
الذي يَتَّجِه إلى مقبرةٍ معزولة» [بودلير، أزهار الشر].
ها هي قد اشتعلَتْ أمطارُ الندم مُوَازَاةً مع شتاء الألم، الألم القاسي على مَرّ الفصول، ودورة الزمن صَيَّرَها الندمُ رَحى تَطحَن وتَطحَن، ولا طحين.. لا يَضرب للشاعر مواعيد مكتملة غير الندم ذاك الذي يُسَيِّجُ حديقة قلبِه بقضبان الألم..
«شبابي لم يَكُنْ سِوى زوبعة قاتمة..
أيها الألم إنَّ الزمنَ يُبْلِي الحياةَ» [بودلير، أزهار الشر].
فإلى أين يَهرب بودلير؟!
ولِمَنْ يُضْمِرُ في حقيبة خيباته ورودَ الحنين؟!
لِنَقُلْ إنه البحر المتمدد تَمَدُّدَ زفراته الْمُسْتَشِيطة غَضَباً، فالبحرُ مرمى حُرِّيته، البحر لوحة أَقْرَب إلى مِرآة، مرآته هو، وفيه يَقرأ ما لم يَقُلْهُ فَمُه وقَالَتْهُ عيناه:
«أيها الإنسان الحُرّ سَتُحِبُّ البحرَ دائما
فالبحرُ مِرآتُكَ تتأمل نفسَك في انبساط أمواجه
غير المتناهية، في حين
أنَّ روحَك هاوية..» [بودلير، أزهار الشر].
بين البحر وبودلير جِسْرٌ مُمَدَّد، إنه المرأة القصيدة تلك التي تُعيد إلى الشاعر منديل الأمل في انعتاق يوازي ضَوْءَ شمعةٍ شَبِقَةٍ تتراقص أَلْسِنَتُه الْمُتَمَدِّدَة مِن جراء عَصْفِ أُصْبُعٍ شَقِيٍّ تَزفّه إلى المحرقة يَدٌ طاهرة..
بودلير يَتَهَيَّأُ لمولاته الضاربة في الخروج عن نَصّ النساء، ويَمكر هو الآخَر في تصويرها لنا بِدَهاء:
«كل ما يَصدر عنك من نزق واعتلال
هو مصدر لِلَذَّتي
كوني كما تُريدين ليلاً حالكاً أو صباحاً وردياً
فليس في جسدي المرتجِف كُلِّه عصبٌ واحد
لا يَصرخ..» [بودلير، أزهار الشر].
إنها مولاتُه الآمِرة وفتاتُه الجائرة وحُلْمُه الجاثم بين سرير العناد وجِدار الذاكرة.. لكن هل يكون لهذه المرأة وجود فِعلي؟! أم تراه يَرسمها لنا بِقَلَم أشواقه الشاخص قُدَّامَنا كخنجر يَأْبَى العودة إلى غمده؟!
لِنَقُلْ إن للشاعر بودلير شطحات لا تَنْأَى عن أحوال السالك لِدَرب الخيال، لكنه الخيال الْمَمْهُور بدُرْبَةٍ مُسْتَقَاةٍ مِن طول الرقص على حَبل الواقع، إنه هذا الواقع الذي أجادَ الشاعرُ مطارَدةَ أشباحه وكذلك الشياطين، فَمَهَّدَ لطريقه إلى سماوات النفس الضارب هو بِجُذوره في قبرها الأَقْرَب إلى مَعْبَد لا تُنْصَبُ له قُبَّةٌ ولا تَرْفَعُه أَسَاطِين.. (لنا عودة بإذن الله).
بقلم : د.سعاد درير
copy short url   نسخ
10/11/2018
3667