+ A
A -
يقولُ وينستون تشرشل في مذكراته:
ركبتُ سيارة الأجرة يوماً متجهاً إلى مكتب الـ «بي بي سي» لإجراء مقابلة، وعندما وصلتُ، طلبتُ من السائق أن ينتظرني أربعين دقيقة حتى أعود، ولكنه اعتذر مني وقال: اعذرني يا سيدي، لا أستطيع، عليَّ الذهاب إلى البيت كي أستمع لوينستون تشرشل في الراديو!
فرحتُ جداً لشوق هذا الرجل للاستماع إليَّ في الراديو، فأخرجتُ مبلغ عشرة جنيهات وأعطيتها له.
فقال لي بفرح غامر: ليذهب تشرشل والـ بي بي سي إلى الجحيم، سأنتظرك هنا إلى أن تعود يا سيدي!
هذا عن مذكرات الفرنجة، أما عن مذكراتنا فيحكي الناس فيما يحكون أن رجلاً كان عنده كلب عزيز على قلبه، وبعد عمر طويل مات الكلب، فقام صاحبه بدفنه في مقبرة المسلمين، فشكاه الناس إلى القاضي، الذي أمر بإحضاره إليه على جناح السرعة، ولما صار بين يديه، قال له: أمجنون أنتَ أيها الرجل حتى تدفنَ كلبكَ في مقابر المسلمين؟
قال الرجل: كانت هذه وصية الكلب يا سيدي القاضي!
فقال القاضي: ويحك، تجمع بين ذنبين عظيمين، دفن كلب نجس في مقابر المسلمين، وتستهزئ بالقاضي، أيوجد كلب يترك وصية يا أبله؟!!..
قال الرجل: أجل يا سيدي، إن كلبي هذا فقيه متعلم، وحتى أنه قد أوصى بألف دينار لمعاليكم لما سمعه من حسن قضائكم.
عندها قال القاضي: إنه كلب فقيه!
وعندما تعجب الناس من حكم القاضي، قال لهم: لا تتعجبوا، لقد تأملتُ في سيرة الكلب ونسله فوجدته من نسل كلب أصحاب الكهف!
أعتقدُ أن كل ما أريدُ قوله قد قلته من خلال هاتين القصتين، ولكن لا بأس بمزيد من الكلام، فالكلام ليس عليه جمارك كما تقول الجدات، على أية حال لا تصدقوهن، «وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»! فاللهم إني أعوذ بك من كلام مأجور يكبني في النار!
في الحقيقة إن المتأمل في الناس، عوامهم على وجه التحديد، ليجد آلاف النسخ الكربونية عن سائق سيارة الأجرة التي أقلت تشرشل إلى مبنى الإذاعة، يبقى للناس مبادئ، وخطب رنانة، وأقدام ثابتة حتى يظهر المال، فإذا ظهر المالُ مالوا!
وقد صدق ابن فارس يوم قال ما سُميَ المال مالاً إلا لأنه يميل بقلوب الناس!
على أن ميل العوام يسير شأنه، مقدور على عواقبه، المصيبة الكبرى حين تُشترى النُخب، من أدباء وفقهاء وإعلاميين ونواب فيتحولون من أشخاص من المفترض أنهم يسهرون على المجتمع، ويصححون عيبه، إلى حفنة طبالين يسبحون بحمد سيدنا الوالي!

بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
25/10/2018
5201