+ A
A -
أتمتم في سري بالدعاء لأسراب التلاميذ والتلميذات التي ألتقيها خلال ممارستي لرياضة المشي في الصباح الباكر، متوجهين إلى مدارسهم بمعية أولياء أمورهم، خصوصا في اليوم الأول من العام الدراسي، إذ أشعر أنهم براعم بشرية تحتاج إلى عناية نوعية، وأنه لا مستقبل لأمة العرب إلا بتوفير التعليم الجيد لفلذات الأكباد ليشب منهم الباحثون والعلماء والخبراء والتقنيون والحالمون بغدٍ أفضل لهذه الأمة.
أتذكر بهذه المناسبة اليوم الأول في حياتي الذي ذهبت فيه إلى المدرسة، وكيف أنني رأيت أقراني ينتحبون ويجهشون بالبكاء بينما لم تسقط لي دمعة واحدة خوفا أو رعبا من الانتقال من الحياة البيتية بأسياجها البشرية والمادية المختلفة إلى الحياة المدرسية التي فيها شغب وتنمر ومعلمات يصرخن في الفصول ومعلمون في أيديهم عصا خيزرانية مرعبة، وإن كانوا لا يستخدمونها على الإطلاق.
وأتذكر أيضا شح كلامي واقتضاب إجاباتي عن أسئلة مدرساتي اللواتي كن يظنن أنني تلميذ خائب، لا يحسن التصرف، ويستغرق وقتا لا داعي له لدى إجابته عن أي سؤال، بل ويتلعثم في نطقه، وأحيانا يتصبب جبينه بالعرق خجلا أو خوفا، ولكن ظنهن كان ينعكس كليا في الاختبارات التحريرية، أو في كراسات «الهوم وورك»، بعدما اكتشفن أن هذا التلميذ - أنا - يجيد الكتابة أكثر بكثير مما يجيد الكلام، وأنني في بعض مسائل الحساب، مثل المسألة التي تطلب حساب كلفة «مريولات سعاد» العشرة، حيث كلفة الواحدة كذا جنيه، فللوصول إلى الإجابة يفترض أن نحسب حاصل ضرب عدد المريولات في كلفة المريول الواحد فنحصل على النتيجة مباشرة من جدول الضرب المفترض أننا حفظناه عن ظهر القلب، ولكنني إزاء هذه المسألة الحسابية تحديدا لم يشغلني حساب ثمن مريولات سعاد العشرة، بل شغلني أولا، وأكثر من أي شيء آخر، وجهة النظر الاجتماعية في المسألة وليس البحث عن الحل الحسابي من جدول الضرب، فكيف يكون لهذه الطفلة المبذرة التي اسمها سعاد عشر مريولات، بينما لا يتوفر لي إلا طاقمان فقط من الزي المدرسي المقرر، فهنا المسألة بالنسبة لي، وليس في حساب ما سيتكبده والد سعاد
كما أتذكر أيضا كيف أن أحد المعلمين في الابتدائي كان يستعين بي في شغل حصة فراغ غاب معلمها أو معلمتها في أن أحكي حكاية لزملائي حتى تنتهي هذه الحصة، وكيف أنني حكيت كل القصص التي بين دفتي مجموعة قصصية كان قد اشتراها لي والدي لأتسلى بها قبل دخولي المدرسة وبدء حياتي التعليمية، مما جعلني أطلب من والدي أن يهديني مجموعة أخرى لأظل متألقا في حصة حكي الحكايات التي تأتي بالصدفة وبدون سابق إنذار.
هذه المهمة التي أناطني بها هذا المعلم الجليل هي التي جعلتني حكاء منذ طفولتي، وهي التي جعلتني أتخيل سيناريو محكما وجذابا للموضوع الذي أقصه أو أتحدث فيه، ولا أبالغ لدى القول إن هذه المهمة هي التي غرست فيّ بذورا صحفية مبكرة، إنها الأيام الأولى من مدرستنا التي تكون عادة مليئة بالأحداث والوقائع التي لا تسقط من الذاكرة.

بقلم : حبشي رشدي
copy short url   نسخ
03/10/2018
2077