+ A
A -

مازلت مولعة بقلعة «قايتباي» وبحي بحري والأنفوشي مذ ديباجته وحتى منتهاه، حتى أني لم أفقد بعد روح الدهشة من كل لمسة جمال معماري في هذه المنطقة الأكثر عتقًا، أما عن مشهد الميناء وتناثر المراكب الشراعية الملونة فيه، والصيادون المحترفون، كما والهواة مكوث، يطوون الصبر تحت أذرعتهم، وبالأكف سنارة الأمل وشِبَاك الربِح، يغرون أسماك المتوسط بـ«البساريا» بغية أن يرد لهم اليم الهدية بأعظم منها: بوري، دنيس أوقاروس
هكذا لوحة هي بالنسبة لي رؤيا أصحو عليها بـ«يا بشراي».
للمنتزه الغلبة في وجداني، فلي ذكريات في حدائق قصرها وفي نُزلها الرائع «هلنان فلسطين»، لكن بالنسبة لي فلايزال «ويندسور» و«سيسيل» هما العشق.
مازلت أحرص على زيارة صابر فرع الإبراهيمية وأطلب «رز بلبن» ثم أهمس للبائع لطفًا، لا تضف سوى البندق وأيس كريم «مستكة» فلست من هواة الزبيب وجوز الهند.
أعود «لقايتباي» فارتاد النادي اليوناني ثم ألوم نفسي حينما أكون في هذا المكان البديع دون صغاري الذين يفضلون «الفيش كورنر» في بحري.. صغيرة كنت أشتري مع جدتي السمك من السوق كما كنا نشويه هنالك، ثم نعود لتناوله بالدار القاطن فوق القهوة التجارية في المنشية على البحر، وكم تغرق مقلتي بالدمع كلما استرقت النظر لشرفة البيت ذات البرامق الرومانية من الشارع الجانبي.. ثم أطالع الطرف الآخر حيث كان يعيش جيراننا من أهل اليونان فيعبث بي الحنين وترجني الذكريات رجًا كسيدة ترج برطمان قبل فتحته.
مازلت أتوق لالتهام السمان وورقة اللحم على الطريقة الإسكندرانية ومازلت أحب التبضع من «زنقة الستات» ولي وله بالملابس الشعبية السكندرية للنساء، حتى أني اشتريت لونين فاقعين منهما.. كم افتقد تلك الحوريات اللائي كن ينظمن المرور بملابس الشرطة في مشهد يتصدى لشتى المحاولات الداعشية التي تواجه بلادنا.
لكم يساورني الحنين لنزل «سان استيفانو» العريق الذي بت فيه بليلة شتوية، شعرت خلالها أني إحدى أميرات قصر عابدين، ثم ها هم يحولونه لفندق أشبه بمطاعم «الفاست فوود».
لربما افتقد قلة الزحام، لكن تظل الإسكندرية العروس الأجمل رغم التدافع ورغم الغلاء ومازالت نساؤها قويات، متقدات الذهن رغم جهلن بسحر لهجتهن التي تفوق في شرعتي جمال اللهجة البيروتية بل والعراقية.
لست بصدد ذم الساحل أو سائر مدن المحروسة لمدح مدينتي الأثيرة.. فلطالما ارتدت شواطئ مطار الدخيلة وكم أمضيت أياما في مصيف برج العرب وسيدي كرير كما والعجمي وأبوتلات وقرية الدبلوماسيين وعايدة وسواها من القرى على امتداد الساحل الشمالي
لكن شتان بين الرخام، الباركيه، الحجر الهاشمي وصخور البحار.. وبين سواه من ايشاني وسيراميك وموكيت الساحل مهما لمع، ومهما برق أو ألق.
فأنا وإن كنت قاهرية المولد إلا أنني سكندرية الروح، بحرية الهوى.
وستظل تلك المدينة عالقة في قلبي كما يعلق الشغف بجنبات المحبين المتكئين على أرائك الكورنيش في ليالي الشتاء المطيرة، يحتمون بعطف أيديهم على قلوبهم، واشتباك ناظريهم بأهداب المحبة، أما وحين يتخيمون تحت ظلال معاطفهم، فأي عشق أرق وأرهف
سيظل لعروس البحر المتوسط في وجداني حنين الابن لرائحة عباءة أمه الراحلة.
سيظل لها حلو أمل العود وشوق الزوجة لأوبة شريكها الرحّال، الكنود.
سنبقى لها حفاوة الأطفال بهدايا العيد ووعد أن الغد شاطئ وموج ورمال ودراجة وملاهٍ ومعمورة.. سيظل لها مجد المفكرين لتطهير العقول من موجات فكر الطاعوية للأبائية «إنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ.. وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ».
سيظل للإسكندرية قصيدة لم تكتب بعد ولوحة لم ترسم قط.
سيظل للإسكندرية طيف مقعد بجوار النافذة بالقطار حيث دهشة الطفولة، وأفواه مفتوحة وعيون محدقة لظل أشجار تعدو للخلف ونحن نستبقها للأمام وأحلام كانت كلما سرنا تطير
سيظل للإسكندرية رائحة بَشرة جدتي وذكرى موقع سجدتي وقِبلة فرحتي ومنتهى رجاي.. لأن الذكريات لاتزال في صدري.
بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
22/09/2018
2565