+ A
A -
أعلن زعيم النهضة التونسي في مؤتمرها العاشر، تحول الحركة إلى حزب مدني ديمقراطي، متصالح مع الدولة والمجتمع، يفصل نشاطه السياسي عن الدعوي الديني، ويتفرغ للعمل السياسي، بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر، بعيدا عن توظيف الدين في المعارك السياسية، وفي تحييد كامل للمساجد عن الصراعات السياسية والتوظيف الحزبي، حتى تكون بيوت الله تعالى، مجمعة لا مفرقة، كما أكد في حديثه لصحيفة لوموند الفرنسية: نريد أن يكون النشاط الديني مستقلا تماما عن النشاط السياسي.
هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلا، متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وهو جيد أيضا للدين، حتى لا يكون رهين السياسة وموظفا من السياسيين..
أثارت هذه التصريحات جدلا واسعا بين من يؤيد ويشجع هذا التحول، ويراه مراجعة نقدية حقيقية وشجاعة، وتطورا فكريا حيويا، واستجابة تاريخية واعية للتغيرات، ومن يشكك فيه، ويراه تحولا تكتيكيا مراوغا، وليس حقيقيا، كون الفصل بين السياسي والدعوي، فصلا مؤسسيا، يخصص البعض في النشاط الدعوي والخيري، ويتفرغ آخرون للعمل السياسي، فهو فصل للوظائف والأدوار، وليس فصلا أيدلوجيا في البنية الفكرية، فضلا عن أن التحولات الفكرية للأحزاب تتطلب سنوات طويلة ولن تحدث فجأة، لكن دعونا لا نتعجل الحكم، ولا نشكك في النوايا، مدى القدرة على التطبيق العملي للتصريحات، هو المحك.
ما العوامل الدافعة لهذا التحول؟ ولماذا تونس التي أطلقت شرارة الربيع؟ يذكر المحللون جملة من العوامل منها:
1 - الإفادة من إخفاق تجربة حكم الإخوان في مصر وغيرها.
2 - مشاركة النهضة في السلطة، بما يفرضه منطق السلطة واحتياجات المصالح الوطنية، والالتزامات الدولية من حدود وقيود ومرونة واقعية.
3 -التجاوب مع الرغبة الشعبية التي بينتها الاستطلاعات الواسعة، أن أكثر من ثلثي التونسيين مع الفصل بين السياسي والدعوي
4 - تطور الوعي التاريخي للغنوشي والقيادات في النهضة.
5 - تبني المنهج النقدي، وقبول فكرة المراجعة المستمرة للأفكار والتوجهات، وشجاعة الاعتراف بالأخطاء.
6 - المقاربة المفهومية لفكرة العلمانية لدى الغنوشي وجماعته، بأنها ليست ايدلوجية إلحادية، ولا تعني محاربة الدين أو إقصائه، وإنما تعني: أن تكون الدولة على قدر كبير من الحياد إزاء الديانات، وكفالة حماية المعتقدات، وعدم فرض دين أو عقيدة ما على المجتمع، طبقا لخالد دخيل.
7 - استلهام التجربة التركية، وتجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في المغرب، برئاسة بن كيران الذي سبق ووجه رسالة إلى كافة الجماعات الدينية السياسية، محذرا من فرض رؤاها على الدولة والمجتمع، لأنه لا احتكار للفهم الديني، مثلما لا احتكار للوطنية، وأن الشعب إذ صوت للحزب الإسلامي، فإنه لم يصوت له إلا لكونه حزبا سياسيا منوطا به حل مشاكلهم وصيانة حقوقهم وأمنهم وتقديم خدمات لهم، وليس تفويضا مطلقا بفرض الأسلمة، فذلك ليس من مهمته، فضلا عن أن مجتمعاتنا مسلمة بطبيعتها وتحيا بالإسلام تعاملا وعبادات وشعائر وتشريعات، والحزب لن يضيف إلى إسلامها شيئاً، وهذا ما كان يطالبه المصلحون الإسلاميون والمثقفون الليبراليون باستمرار، من الأحزاب الإسلامية.
8 - التراث البورقيبي الذي وطد القيم المدنية في نفوس التونسيين وفي منظمات المجتمع المدني.
9 - ومع أهمية هذه العوامل التي يذكرها المحللون والمؤثرة في تحول النهضة وتطورها، إلا أن هناك - في تصوري- عاملا أكبر، تم تجاهله، هو: الفكر المقاصدي الذي وطده ورسخه في التربة المجتمعية التونسية، المصلح الديني الكبير، محمدالطاهر بن عاشور، شيخ جامعة الزيتونة، وصاحب المؤلفات العظيمة في فقه المقاصد الشرعية والتحرير والتنوير والنظام الاجتماعي في الإسلام، هذا الإمام الجليل والفقيه المجدد، أسس لخطاب ديني جديد، يحتضن الإنسان، ويقبل الآخر، ويعمق الأخوة الإنسانية،وروح التعايش المشترك، وينفتح على ثقافات العالم، ويرسخ الحرية كمقصد من مقاصد الشريعة العليا، ويعلي من أهمية تحكيم العقل في شؤون الحياة، هذا الفكر الإصلاحي المقاصدي، كان له التأثير الإيجابي الواسع، ليس على ثقافة النخب السياسية والدينية التونسية، فحسب، بل على النخب المغاربية كافة، أنتج عقلية حضارية جمعية مستنيرة، تفهم الإسلام فهمًا متقدما، تميز به التونسيون والمغاربة عامة.

بقلم : د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
06/06/2016
2531