+ A
A -
«الشرفاء يعملون ويخطئون ويتحمّلون عواقب ما يعملون وما يخطئون، إنهم لا ينطلقون من مكائد يدبّرونها ولا مؤامرات يحيكونها، بل من أحاسيس الحياة والتجديد وأحلام النهوض والإصلاح» هكذا تحدث الشيخ سلمان العودة عن تجربة سجنه الأولى كما جاء في سيرته الذاتية. لم يكن هذا الشيخ من الذين يحبون العمل في الظلام أو ممن يسعون إلى حكم أو سلطان وإنما هو من أولئك الذين تنطلق أرواحهم حرة في كل الكون لتعبّر عما تؤمن به دون وجل أو خوف. ولأنه تعلّم الدرس من جولات صراعه الماضية مع الطغيان فقد كان واضحا في موقفه «إنه مستعد للتضحية في سبيل مشروع واضح يعرفه الجميع إذا كان مقتنعا به، لكنه لن يفعل ذلك لصالح قضية خاصة غامضة».
كانت التجربة السجنية الأولى للشيخ سلمان العودة على امتداد سنوات خمس (من أغسطس 1994 إلى ابريل 1999) قضى في بدايتها أشهرا في سجن انفرادي معزول عن الناس بسجن الحائر (سيئ الذكر) «مائة وخمس وثلاثون شمسا طلعت وغابت عليه في محطته الأولى، ذات الأمتار الثلاثة طولا، والمترين عرضا، دون أن يرى في أفقها شارقة أو غاربة».
لم تغير تجربة السجن الأولى شيئا في مبادئ سلمان العودة فهو مازال يستند إلى ذات الثوابت فهو ينأى بنفسه عن منزلقين خطيرين:
أولهما: العنف، فهو يرفضه ويدينه أيّا كان مصدره ولا يجد له تسويغا في الشريعة ولا اعتبارا في المصلحة.
وثانيهما: التطرف والغلو، فهو يحاربه عقيدة وسلوكا، ويرفض التطرف «سواء كان مصدره شابا ضل الطريق فعلا، أو حاكما مستبدا يأخذ الناس بقوة الحديد، ويدين القتل الأعمى سواء صدر قراره في الجامع أو في مخفر الشرطة».
ظل سؤال العلاقة مع السلطة مما يؤرق الشيخ العودة، ففي ظل نظام بوليسي يأخذ الناس بالشبهة ويميل إلى تأويل كل حرف وكل لفظ بل وكل همسة من الصعب أن يتمتع الإنسان بقدرته على التعبير أو يرى ثمارا لفكره، غير أن الرجل استمر في إعلان مواقفه بجرأة يحسده عليها كثيرون رغم تحفظه الشديد في أن يتحول إلى زعيم سياسي يصارع نظاما سياسيا مهترئا فهو إلى طينة رجال الإصلاح اقرب. فأثناء تصاعد نار حرب الخليج اثر الغزو العراقي للكويت والانزال العسكري الأميركي بالمملكة السعودية لم يتأخر الشيخ العودة على أن يكون من الممضين على «خطاب المطالب» الذي شارك فيه نخبة من الإصلاحيين في المملكة والذي قام على المطالبة بجملة من الإصلاحات التشريعية والسياسية والاجتماعية والإعلامية وبسط الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان المشروعة، ولم يتأخر رد السلطة حيث حظرت عليه السفر وحرية التعبير والكتابة قبل أن ينتهي به المطاف معتقلا في سجن الحائر لسنوات خمس.
يذكر الشيخ العودة أن ضبط حدود التماس بينه وبين النظام الحاكم في بلده «ظل التساؤل الأهم لديه: إلى أي مدى سيقترب أو يبتعد عن سلطة تمسك بالزمام كله؟ وهي أمامه في كل الطرق». وفي النهاية قرّر أن يتعامل معها وفق الحكمة التي تقول «اجعلها كالنار، إن ابتعدت عنها ضربك الصقيع.. وإن اقتربت احترقت»، كلمة سهلة في نطقها، جميلة في صياغتها، عسيرة في تحويلها إلى برنامج أو مشروع».
يدرك الشيخ العودة وهو المثقف واسع الاطلاع أن السلطة السياسية بطبعها الاستبدادي تميل إلى الهيمنة والمنع والتوجس من كل خطاب إصلاحي حتى وإن ظهر صاحبه خارج المجال السياسي بمعناه الحزبي أو التنظيمي، ومن هذا المنطلق لم يكن مفاجئا أن يتم اعتقال الرجل لمجرّد تغريدة كتبها على تويتر «يدعو فيها الله للتأليف بين قلوب ولاة الأمور لما فيه خير الشعوب» وكان ذلك يوم 10 سبتمبر2017.
ورغم أن الشيخ العودة لا يخفي نزعته الإصلاحية ففي كتابه «أسئلة الثورة» يعلن بوضوح أن الخيار الأفضل هو التغيير الذي تُقدم فيه السلطة على التنازل لشعبها، فإنه «لا مفرّ الآن من التذكير بأن المهمة الملحة والمجدية أمام الأنظمة العربية للخروج من الأزمات الراهنة هي السير قدما نحو الانفتاح على الناس، وتقديم تنازلات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون وإعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمواطن لا بفعل القمع والشعارات المكررة، بل على أساس نيل رضا الناس بما تقدمه من ضمانات حول حرياتهم وعيشهم الكريم».
ويدرك النظام الحاكم في المملكة السعودية اليوم أن وهج المطالب الإصلاحية قد يتحول إلى ما يشبه كرة الثلج التي تطيح بكل شيء وأن شخصية متوازنة ومؤثرة مثل الشيخ العودة قد يتحول في لحظة إلى زعيم ممكن في انتقال سياسي هناك ولذا جاءت المحاكمة وما تسرّب عن قائمة التهم الموجهة للشيخ سلمان العودة أشبه بسيرك دعائي هزلي لا يصدقه عاقل ولا يمكن بناء حكم عليه إلا بقدر رغبة الحاكم في التنكيل بالنخبة الإصلاحية ولا ينتظر الحاكم في المقابل خنوعا وخضوعا من الشيخ العودة وهو الذي وطّن نفسه على صعوبة طريق الإصلاح أليس هو القائل «كم هو رائع وجميل أن تستشعر أن قدرك هو أن تحاول أن تكون جزءا من أنموذج عملي لفكرة أخلاقية تتحدث عنها وتحلم أن يكون الناس عليها».

بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
13/09/2018
2385