+ A
A -
بكل سفرة إلى تلك الإسكندرية الساحرة وبكل وقفة بمواجهة بحرها الهدار وأمواجها العاصفة بل قبل الولوج لمدخلها البري، تستقبلك العاصمة الثانية لمصر بعبق اليود الآخاذ كسيدة تجيد إغواءك بعطرها أن «هيت لك» فاقترب، فتنصاع، وترمي بياض قلبك وتلبي وتدنو حتى تركع على رمال شواطئها فتعربد بك أمواجها وتقلبك رأسًا بلا عقب، لتعود بنهاية المطاف من السفرة وقد سُلبت روحك بل لربما لم تسفر لك تلك السفرة سوى أسفار عن مكنون روحك.
تأسرك حين تقف مشدوهًا وأمام ناظريك الأفق مسرمدًا وشمسها الأصيل تشفق على أهل الأرض من عتمة العِشاء فتطمئن لبحرها كما اطمئن أسلاف اليونان والرومان لأهليها، فسكنوها واستودعوها خزائن أسرارهم وقلوبهم، لتسكب بدورها عليهم من ملح بحرها ما يطهر الأحزان. فلا وربي ما هجروها إلا مُكرهين وقد اندمجوا فيها فخالطت أمواجها ذراريهم، فلا تعرف أهم أضافوا قيمة لسبيكتها الثمينة أم تراها هي من عطفت على طبيعتهم فأثرتها أصالة ونبلًا.
قلما يعي سكان تلك المدينة عظمتها، قلما يدركون الجاذبية في منطوق ألسنتهم الذي تأثرت بطبيعتهم الساحلية الممتدة بمد يَمِهم حين يتعجبون بـ«أيووووووه» تماما كموجة داعبتك بقذيفة مياه يبقى زبدها بصدى يوووووووووووه.
يفضلونها شتاء بمعزل عن ضيوفها المصطافين، المزعجين، وقلما تجد من هو عليم بتاريخها وأمجادها.
وقالت نسوة في المدينة: «الإسكندرية فقدت رونقها بعد أن راودت شعوب الأرض عن أوطانهم وقد شغفوها حبًا» وكثر القيل والقال عن حسنها الذي ولّى وعن زحامها الذي تجلى، إلا أني أجدها خمرة ما زادها الزمن سوى تعتيق.. كزرابي فارسية لم تضف إليها السنوات إلا قيمة.
البعض يزورها هربًا من سوء الطقس، بيد أني بكل خطوة أخطوها بتلك المدينة تحدثني نفسي أن على هذه الأرض مشت كليوباترا وعلى رمالها المتوسطية عبر البوصيري، وفيها عاش الفقيه الطرطوشي وأبوالعباس المرسي الشيخ الصوفي الجليل، كما أن الخديو عباس حلمي الثاني، الأميرة فوزية، الأديب الأشهر توفيق الحكيم والمعماري الفذ حسن فتحي ولدوا على ثراها، وحتى اليوم يقيم فيها المفكر الكبير يوسف زيدان.
على بقاعها كتب الشاعر الفريد قسطنطين كفافيس قصائده الفريدة، وفيها نشأ الممثل العالمي عمر الشريف والرسام محمود سعيد كما سيف وانلي، عبداللطيف أبوهيف وديميس روسوس وقائمة تطول ولا تنتهي لمشاهير قدروها تقديرا.
ذكرياتي بها تستهل بنُزُل «سيسيل» على بعد خطوات من بيت جدتي، هنالك كنا نتناول أحياناً العشاء بمطعمه القديم إلا أننا كثيرا ما جلسنا على مقهاه «التروتوار».
مازلت أرتاد مقهى «تريانو» ولي ركني الخاص بجانب الستائر البيضاء النصفية للتلصص على الشارع والمارة، لكني لا ألبث أن أتركه ريثما أتسكع رويدًا بمحطة الرمل، اشتري فشار، أتقاذفه في فمي كبهلوان وأنا أدلف لصفية زغلول ثم أعرج على الحي اللاتيني ومنه لشارع فؤاد ثم صلاح سالم حيث ابتاع كتبًا وأحيانًا حذاء أو حقيبة جلدية ثم أعود لأرفه نفسي بجلسة في «ديليس».
مازالت نكهة البن البرازيلي تدعوني للولوج للمقهى والتزاحم للجلوس على المقاعد الحمراء.
مازلت أقفز في الترام وكم حرصت على أن يَخْبُر أبنائي هذه المواصلة العتيقة ولكم انتشوا من صوت عجلاته حينما تصطك بالقضبان تمامًا كما انتشيت، كما لاتزال تشجيني صور واجهة البنايات العتيقة الدائمة الحسن على ضفتي الترام.
مازلت من عشاق التسكع على الكورنيش وتحسس الصخر بيمناي والتقاط صورة تذكارية بيسراي بجوار المتوسط ومحاولة إخفاء قُرص الشمس خلف كفي مع خلفية للنورس الأبيض البهيج. مازال وجهها الغضوب يتخبطني ويكأنه ينبهني لوجود «متحرش» فأسرعي، فأمد ذراعي استوقف عربة أجرة ملونة، سوداء وصفراء فاقع لونها تسُر الناظرين كبقعة شمس وقعت على الأرض، وأشرد في ليل بهيج لطفولتي، كنت حياله أنام هربًا من وعثاء السفر، فإذا ما استفقت على تلكم العربات بلونها الأصفر، فإذ بدقات قلبي تصرخ طربًا أن وصلنا... وعمار يا إسكندرية
كاتبة مصرية
بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
08/09/2018
3847