+ A
A -
لعل المستجدات الطارئة في المنطقة العربية اليوم لا تقتصر على الراهن السياسي بتقلباته التي لا تنتهي ومنعرجاته التي لا تستوي بل هي تفرض نفسها في كل الملفات التي يسحبها معه قطار السياسة ورياح السياسيين. المرفق الإعلامي واحد من أقرب الملفات إلى الواجهة اليوم إن لم نقل إنه أكثرها حساسية وقابلية للإشعال والاشتعال.
بالأمس القريب وعندما كانت أمور البلاد والعباد مستتبة للطاغية العربي آمرا بأمره ناهيا بنهيه لا صوت يعلو فوق صوته، كان الإعلام العربي الرسمي بشكله المرئي والمسموع والمقروء محافظا على نفس المعزوفة وكانت أعين النظام في كل مكان تترصد الأعمدة والمقالات والتصريحات والمقابلات ولا تترك شاردة ولا واردة. كان اختطاف الصحفيين وربما قتلهم ودفنهم يتم دون أن يسمع به أحد إلا من بعض الهمسات الحذرة في الغرف المغلقة.
لكن انفجار الثورة الرقمية مع تطور تكنولوجيا المعلومات من جهة وتطور شبكة الإنترنت وتعدد الوسائط من جهة ثانية أحدثا قطيعة كبيرة مع المنوال الإعلامي القديم فلم يعد بإمكان النظام الرسمي بكل أجهزته الرقابية الممكنة أن يتحكم في المعلومة أو أن يمنع خروجها للعلن كما هو الحال سابقا.
لقد انحسر مجال الإعلام القديم ومساحاته بشكل بيّن ولا يزال زحف مواقع التواصل الاجتماعي متواصلا على آخر حصون الصحافة القديمة وقلاعها الحصينة. صحيح أن المنابر الإعلامية والصحف والمجلات قد عملت جاهدة على التأقلم مع الوضع الجديد وإكراهاته لكنها فقدت شرطي الحصرية والأسبقية اللذين كانت تتمتع بهما سابقا. لكن من جهة أخرى ورغم ما وفرته الأقمار الصناعية والبث الفضائي من إمكانات نوعية سهّلت واختصرت عمليات النقل والبث التلفزي خاصة فإن تضاعف عدد القنوات التلفزية لم يكن في خدمة الإعلام بما هو أساسا منبر لحرية التعبير والإخبار. لقد تحولت المنصات الإعلامية إلى منابر مكشوفة للأجندات الحزبية والسياسية والطائفية بشكل غير مسبوق.
استبشرت الجماهير العربية خيرا بانطلاق شبكة الجزيرة رغم كل الاعتراضات والملاحظات التي قد توجه إليها فقد رسمت القناة خطا فاصلا بين الإعلام المهني الحر وبين إعلام الاستبداد حيث الرأي الواحد الذي يعلو ولا يعلى عليه. لكن طفرة الجزيرة لا تزال يتيمة وهي تواجه مئات القنوات التي رصدت لها ميزانيات ضخمة من أجل إرساء منطق النظام القديم وتأبيد خطاب الاستبداد.
يبقى رهان المصداقية أبرز وأعظم الرهانات التي تواجه المرفق الإعلامي اليوم رغم إكراهات السياسة والمال لأن مواصلة الإعلام العربي في نفس النهج التضليلي القديم قد يتسبب في خسارته لآخر القلاع لصالح الإعلام الجديد.
بقلم : محمد هنيد
copy short url   نسخ
30/08/2018
2454