+ A
A -
إن واقع الرحلة السياسية والفكرية للوطن العربي اليوم، تتجاوز أزمات الواقع السياسي التي تصل في مسارات منها إلى منهجيات عربدة متعددة من منظومة الاستبداد داخل الوطن العربي، أو المؤسسات والتحالفات الدولية للغرب، وخاصة بعد عودة القطب الروسي، ومع كل ذلك، تداخلات إقليمية وخيوط مخابرات معقدة، باتت بعض الأفكار والأيدلوجيات من خلالها تحت التوظيف المباشر.
وهنا أضحت الأرض العربية، في أهم مراحل إعادة التفكير التأسيسي لخيارات المثقف العربي، وخاصة لأجيال المستقبل، كيف يرسم معالم انطلاقاته ووعيه لتراثه ولرسالته، أكان مسلماً منتسباً لها أم كان مسلماً حضارياً.
بمعنى أنه من دين آخر لكن يدرك أن الوطن العربي له أرومة خاصة، وأن الرسالة الإسلامية وما أنتجته من تقاطعات إنسانية وحضارية واسعة، هي مدخل مشترك للإنسان العربي، وليس حاجزاً طارداً على الإطلاق، لمن لم يعتنق الرسالة لأصوله العقائدية أو مذهبه الوجودي المستقل.
إننا هنا وعند أول سؤال يُطرح في هذه الدعوة، نحتاج إلى التأمل العميق، ماذا تعني لنا كل هذه المرحلة من تنحية العروبة كمعهد جامع لأركان الوطن العربي، وامتداداته بالمهجر، وهل حلّت الحزبية الإسلامية التي نحترمها ونحترم مظالمها، مآزق الوطن العربي وتوسّع القهر والاستبداد.
وهل استطاعت منظومة الأيدلوجيا الحزبية، -لا مفاهيم الفكر الإسلامي الراشد- أن تؤسس في ذات الفرد وجيل الشباب الجديد، قيم العدالة في نفسه وسلوك الأخلاق القويم، والتواضع والإحسان الذي تفيض به رسالة الإسلام الأخلاقية.
أم أن منظومات القوالب الأيدلوجية عززت الشحناء والقطيعة، والتقسيم الوجداني للشاب العربي، والذي باسم العقيدة الصحيحة أو باسم الطائفة الولائية أو باسم المذهب أو الطريقة، هدَم رسالة الإسلام في تكريس الوحدة الاجتماعية والأخلاقية في داخل الشعوب المسلمة.. وبالتالي أين الخلل؟
إن هذا الطرح لا يعني مطلقا تحميل الحالة الإسلامية الحزبية، وأيدلوجياتها العقائدية، كل المسؤولية عن التخلف والقهر والحروب، التي تسببت بها عربدة المستبدين العرب والأجانب، وآفاق هذه الدعوة لا تنطلق من معادلة صراع فكري، يقتحم ميدان الإسلاميين الأيدلوجيين أو نظرائهم القوميين.
بل العكس هي تمد اليد للجميع، بإعادة بسط الفكرة حول الأرومة العروبية على سماء المجتمع المثقف، لإعادة فهمها وكيف أنها باتت ضرورة لأفق فكري لأجيالنا العربية، وأنها لا تتعارض مع إيمانهم بحلم دولة النهضة العربية.
ولذلك فنحن هنا أمام استذكار طبيعي للمرحلة المقابلة في خطاب الصراع الأيدلوجي الإسلامي- القومي، فالسجل التاريخي هنا للحالة القومية التي جاء بعدها خطاب الحزبية الإسلامية بعد أن نُحيّت حركة الإحياء الإسلامي، يحمل إرثاً مروعاً من الدكتاتورية والبطش، واستنساخ أنظمة متعددة باسم القومية، ولايزال استحضار إرث الفكرة للتغطية على جرائم العصر قائما، كما هو في حالة سوريا اليوم.
ورغم انطلاقة الفكر القومي الجديد وخاصة اليسار القومي العربي، إلى مساحة النهضة ومقدمات الدولة المدنية ومسار العدالة الاجتماعية، إلّا أن هناك تترسا صعبا بينه وبين الإسلاميين.
لا يسع الزمن لمعالجته حسب المعطيات القائمة على الأرض، فضلا عن تداخل الفكرة القومية في أجزاء من الوطن العربي، مع بقية تراث الاستبداد، الذي تبادل مهامه بين اللافتة الإسلامية واللافتة القومية، في أركان الوطن العربي، كنموذج التجربة المصرية والسودانية.
ومن هنا فإن الدعوة إلى إحياء الفكرة العروبية المستقلة، لا تعني الدخول في منطقة الاشتباك الصعبة، ولا النزاع مع الطرفين، رغم أن هذا لا يعني إلغاء تيارات أخرى كاللبيرالية الوطنية، التي تؤمن أيضاً بعمق جامع للإنسان العربي، أو اليسار الشيوعي المطلق، غير أن الحزبية الإسلامية واليسار القومي هما الطرفان البارزان اليوم، وبالتالي هنا الرسالة للمجتمع العربي الجديد، هو دعوة لمظلة فكرية تعيد السؤال بعمق وأفق واسع.
أليس من صالح الوطن العربي العودة لمفهوم العروبة بوعي جديد؟
وعيٌ لا يستثني ولا يشترط على أشقائه الأمازيغ ولا الكرد ولا غيرهم، من أهل أرضه اعتقاداً أيدلوجياً ولا حتى يلزمهم بالانتساب إليه، وإنما فهم فكرته والشراكة معهم في إعادة البنية الحضارية الثقافية للمجتمع العربي، لأننا هنا جميعاً تحت واقع التاريخ السياسي والجغرافي والحضاري جميعاً، تحت أرض العرب، التي تشكل أرضها وحضارتها أحد أركان العالم القديم والجديد.
فإلى أين نذهب خارج العروبة وأرضها، أو ليس مهمتنا تنمية الفكر وتصحيح المفاهيم لتكون العروبة التي تحتضننا، مؤسسة تاريخ وإنتاج تشارك البشرية قيم التقدم في اتجاهيها، وتؤسس لأرضها عهدا أخلاقيا وفكريا جديدا، بعد أنهار الدماء والحروب الفاجعة، والتي غُرست فيها كل حربة ضد الأرض وضد الإنسان.
أما تيارات الحالة الإسلامية، خاصة من هم خارج الانتماء الأيدلوجي الحزبي، ولا يعني ذلك أن كل شباب الحركات الإسلامية، تحت فكرة المفاصلة الأيدلوجية مع غيرهم، بل هناك في ساحة الحزبيين الإسلاميين، مساحة مراجعات ضخمة والبحث عن التصحيح الفكري، الذي يستقيم مع قيم الرسالة وأركان دعوتها لاستخلاف الإنسان.
وإنما ما يحتاجونه في فهم العودة للعروبة من جديد، أن العروبة هي أكثر اتصالاً واندماجاً مع مسؤولية حمل الرسالة الإسلامية كمهمة تكليف لا تشريف، وقد بسطت ذلك في كتاب فكر السيرة، وأن شركاء العروبة أرضاً وإنساناً من غير المؤمنين بالإسلام، هم من أسست معهم الأرض العربية بعد الرسالة وهم من شاركوا رحلتها واندمجوا معها.
وأن البغي والظلم والعربدة والتخلف وإسقاط الشورى وحق الأمة الانتخابي، وتضييع العدالة في توزيع الثروة، والرحمة بالمساكين والرفق بالشعوب، وكوارث الصراعات في تاريخ المسلمين، لا علاقة لاندلاعها في الحقيقة، بشركاء العروبة غير المسلمين، بل بالاستبداد والجور، وإعلاء حظوظ النفس من الإثراء، على حساب ضم الأراضي لا دعوة الإنسان السلمية للإسلام.
كما أن قرن العروبة بمفهوم العلمانية المطلق خطأ كبير، فالعروبة مبدأ أسس على جغرافيا حقيقية، وانطلقت الرسالة من أرضها لتحملها للعالم، كما أنها وطنٌ عربيٌ واقعي لا يمكن أبداً أن يعزل تاريخه عن أقطاره، وأننا كلما مزقناه أضعفناه بأرضه الكبرى أو بأقطاره، ثم غدت هذه الأقطار يضرب بعضها بعضا، فيما لو كانت في اتحاد قوي وبالعدل، مع أرض اللسان والتاريخ العربي الطبيعي لكان لها ولبقية المسلمين شأنٌ آخر.
المسألة الأخرى أن مصطلح العلمانية اليوم، لا يفقهه كثيرٌ من الشباب الإسلامي حيث عبئ ضدها بالمطلق، وخُلطت الأمور في عقليته ولم يعرف الفرق بين العلمانية المدنية الدستورية، التي استخدم مصطلحها كمقابل عقائدي للإسلام، وهي قضية خاطئة يطول التفصيل فيها.
ولقد وجدتُ فهم عمق الفكرة الإسلامية مدنياً، في زيارتي البحثية الأخيرة لبريطانيا، مع شخصيتين إنجليزيتين، حيث يجد الباحث الغربي الإنجليزي تميزا مختلفا في الإسلام عن المسيحية، كونه يجمع بين القيم والتطور المدني والسلوك الروحي، ولقد كان ذلك محل إعجاب وتقدير تاريخي لدى الباحثين الغربيين المنصفين.
ومن هنا ففكرة العلمانية الاستئصالية، التي تقوم على نزع حق الفرد من الإيمان، أو حجب حق الفلسفة الإسلامية، في تطوير حركة التنوير البشرية، هو مسار مختلف عن مفاهيم العلمانية المدنية، التي لو نزع المصطلح منها لكانت مساحة التأسيس الدستوري والأخلاقي فيها للمجتمعات، تشترك ذاتها تحت إطار الفكر المدني في الفقه الإسلامي.
سيبقى في عقلية الشاب العربي الإسلامي، مسألة ربط العروبة بهدم الجسور بين قوميات الأمم غير العربية التي آمنت بالرسالة، والحقيقة أن ذلك ربطٌ بمفهوم القومية الحادة، وليس مُقراً في كل اتجاهاتها، إن الرابط بين أمم الأقوام التي آمنت بالرسالة والتعاضد معهم في سبيل التكامل والعدالة والنهضة الإنسانية المشتركة، التي حث عليها الإسلام، لا يتعارض مع الإيمان برابطة العروبة للوطن العربي الكبير، وإنما يُنظم هذه الشراكة ويعززها.
ونحن نرى اليوم واقع إخواننا من بقية الأمم القومية داخل الرابطة الإسلامية، فهم لديهم تداخلاتهم الاجتماعية والإقليمية والجغرافية المختلفة، ولم يستفد العرب ولم يستفيدوا هم، من تداخل قضايا الوطن العربي في شأنهم الداخلي أو سياساتهم.
وإن كان مفهوم الدعم والانتصار للعدل، مطلبا لا يغيّره الزمن بين أقوام الرسالة، غير أن صناعة اتحاد أممي، يحتاج منّا أن نعتني بوطننا العربي لينهض بذاته، ويُدعم ويَدعم كل أمم قومية في آسيا وفي إفريقيا وحتى في المهجر، لها مشروعها الناهض ضد الصراعات والحروب، والذي يعلي قيم الإنسان والتقدم لشعبه، والتعاون الجمعي ضد المظالم العالمية.
دون أن نُغرق الشباب العربي ولا نؤذي الأمم الشقيقة، بتصدير المشاكل أو توسيع الصراعات، والتدخل في بنية هذه الأمم، التي تتأذى من الدخول العربي الفوضوي، ونتأذى نحن من إقحامهم في صراعاتنا الفكرية والسياسية.
وستكون هناك مساحة رفض متحد طبيعية ضد أي سياسات عدوانية ضد الشرق المسلم، وهذا طبيعي بل واجب أن نتحد فيه، وسنظل بلا شك معهم في رابطة الأمة الكبرى للرسالة، التي يقوّيها اعتناؤنا بالوطن العربي ونهضته الذاتية، فالأعواد الضعيفة ليست كالأغصان القوية، وموقعي في التيار العروبي داخل منظومة الفكر الإسلامي ساعدني في فهم المأزق، والدعوة لهذه الرسالة لنعود إلى العروبة من جديد.
بقلم : مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
13/08/2018
3179