+ A
A -
كيف يُمكن ألاَّ تَنحني الآذان ما أن تَعبر ذاكرةَ الإنسان لحظةُ قراءته لقصة الرَّجُل الذي فَرَّ هاربا مِن رزقه وادَّعى أنه أسرع من أن يَلحق به رزقُه؟!
بداية الحكاية تَقف بنا عند باب التسليم الذي لم يَفتحه الرجُلُ، فهو صَوَّرَ له عقلُه بأنه متحكم في كتابة قَدَره بِيَدِه، لماذا؟ لأنه غَيَّبَ الإرادةَ الإلهية وترَكَهَا جانبا، بينما أَوْهَم نَفْسَه، قبل أن يُوهِم الآخَرين، بأن له القدرةَ التي لا تَسقط كلمتُها في ميزان إيمانه الضعيف..
تَأَهَّبَ الرجُلُ لصعود الجبل وما أَعَدَّ العُدَّة، فهو أَقْسَمَ على أن يَتْرُكَ رزقَه عند مدخل خيمته، وبَلَغَ أقصى قِمَّة تَخلو من الزاد والعباد لِيَرَى إن كان هذا الرزق سيَزحف إليه زحفا..
ولأن الله يُريد ويَفعل ما يريد، فقد شاءت المشيئة الإلهية أن يُخَصِّصَ مجموعةٌ مِن الفِتيان ذلك اليوم لنزهة قادَتْهُم إلى الجبل ذاك، وقد استعدوا للرحلة بما لَذَّ وطاب مِن طعام وشراب حملوا منه الشيءَ الكثير، لَعِبوا ومرحوا وأكلوا وشربوا، ثم انتهى اليومُ لِيَعودوا إلى بيوتهم تاركين في الأعلى ما يَسيل له لعابُ الجائع الظمآن..
صاحبُنا الهارب مِن رزقه لم يَكَدْ يُصَدِّق نفسَه أمام مَشْهَد الطعام الذي لا يعَرف كيف حَضَر، لكنَّ فَمَ البطن لا يُغْلِقُه الاكتفاءُ بالنظر.. فماذا سيفعل الرجُلُ؟! هل يُقْبِل عليه إقبالَ اليتيم المحروم أم تراه يُدَحْرِجُه من أعلى قِمَّة كالكُرَة؟!
ولأنَّ الرجُلَ قد دَخَلَ في تَحَدٍ مع نفسِه، فقد أَصَرَّ على عدم لمس الطعام، وقَرَّرَ المضي في طريق العناد إلى ما لا رجعة.. لذلك انزوى في كهف مهجور حالفا ألا يسَمح للقمة بالمرور إلى مَعِدَتِه..
الصُّدْفَة الغريبة تتواطأُ مع إرادة القَدَر ضِدّ رغبة الرجُل، فإذا بجماعة مِن قُطَّاع الطرق تَقصد الجبلَ. الذُّهول يُلَوِّنُ وُجوه اللصوص الذين لم يَحسبوا أنَّ في انتظارهم مائدةً دَسِمَة، لذلك يُهَرْوِلُون إلى الطعام، لكن قبل أن تتسلل اللقمة إلى معدة الواحد منهم يَجدون كبيرَهم يُصْدِرُ أمرا بإسقاط نظام اللَّهْفَة التي قد تُسَمِّمُ أجسامهم..
الهدوءُ الذي يَسبق عاصفةَ التهام الطعام يَفضح وجودَ الرجُل الهارب مِن قَدَرِه، فسرعان ما يَنْتَبِهُ اللصوص إلى وَقْعِ حركتِه وهو يُحاول الاختباء منهم، فإذا بأحدهم يَسحبه كالأرنب وكان أن حَكَمَتْ عليه الجماعة بتذوق الطعام خشيةَ أن يُصيبَهم سمُّه كما تخيلوا..
وها هو الرجُل يستسلم لِحَفَّارِي قبرِه، والسخيف بحقّ أنهم يُجبرونه على فـتح فمِه لِيُلْقُوا فيه بشيء من الزاد من باب الاطمئنان على سلامة الطعام، وإذا بالرجُل الهارب يَضطر إلى ابتلاع الطعام..
العِبرة يا صديقي أن ما مِن أحد يَفِرّ مِن رزقه، ما مِن أحد يُؤَجِّلُ رزقَه أو يُعَجِّلُه، وحين تَحين ساعةُ الرزق لا يُمْكِن لِعَقْرَبَيْ قلبِك وعقلِك إلا أن يَنْصاعا ويُذْعِنا. وهذا مغزى قوله عليه الصلاة والسلام: «لو أَنَّ ابْنَ آدم هربَ مِن رزقه كما يَهرب مِن الموت لَأَدْرَكَه رزقُه كما يُدْرِكُه الموتُ».
نافِذَةُ الرُّوح:
«أيُّها الليلُ، تَعِبْتُ منكَ، خُذْ حقيبَتَكَ وارْحَلْ».
«فُستان الشهرة الْمُرَقَّع لا يُرْضِي غُرورَ نجمةِ الليل التي أَكُونُها..».
«أنا الْمَلِكَة، تَقول الشمسٌ، فتَنْحَني طاعةً وصيفاتُها مِن النجوم اللواتي يَحْطبْنَ الليلَ».
«كَمْ يَلزم الكلبَ القَذِرَ مِن عَظْم يَكْفي لِيُجَدِّدَ مُنْعَرَجاتِ اللذة؟!».
«بَين مَنْ يَتَسَلَّقُ سُلَّمَ الْمَجْد الزَّائِف وطالع النخلة الْمُغِير فُرصةٌ».
«رَأَيْتُ كُلَّ شيء.. تَقول الشمسُ للمَوْج الهارِب وقد راوَدَها عن نَفْسِها».
«لِكُلِّ سماءٍ مَوسمُ دموع، أما شمعةُ العُمْر، فَلْتَذْرِفْ تلك ما شاءَتْ مادام شتاءُ الحُزن لا يَغِيبُ».
بقلم: د.سعاد درير
copy short url   نسخ
26/07/2018
2601