+ A
A -

في صباي، كانت تزورنا بالدار سيدة مُسنة تُدعى أم محمود، كانت خياطة بسيطة تتميز بسلوك مفرط في الرقي والبساطة، وكانت لاتزال تمتلك بواقي رشفات من محاسن الخلقة.
لم تكن أم محمود احترافية أو متمكنة في عملها، فلم تعجبني خياطتها يومًا ولم تكن هي مدعية تميز. بل كانت تعترف أنها ليست خياطة «بريمو» لكنها تزاول العمل لتعول أحفادها بعيد وفاة زوجها وابنها. المفارقة أنها كانت حريصة على استخدام كستبان فضي عتيق. كنت ما أن أعود من الجامعة ويخبرونني أن أم محمود زارتنا اليوم، فكأن زرًا قد ضغط على قابس السعادة بنفسي. كانت دخلتها حلوة وبسمتها تومض طمأنينة وسلاما أصيلين. فقد كانت من هؤلاء الأشخاص الذي إن نزلت البحر معهم وكنت جهولًا بأمواجه، تسبح مطمئنًا لكونك تستطيع الاستلقاء وبسط يديك على صفحة الماء وأنت موقن أنهم لن يدعوك تغرق.
الطريف أن حتى والدي كان يطرب لزيارتها لنا، ربما كانت تذكره بوالدته، بتكوينها الجسدي، وبجلستها الواثقة، الساكنة، المستريحة وبضحكتها الخافتة، الهنية.
أما والدتي، فكانت أشد فرحاً لزيارتها لنا، فالسيدة الفاضلة لم تكن تُطْلِق عيناها في أركان البيت. وإن صادف وكانت أمي تطبخ، فكانت أم محمود تجلس معها في المطبخ بدون تكلف.. الطريف أن أم محمود كانت من الحكائين،لا تمل تحكي بالساعات، هي تحكي وأنا انصت. ولن أنسى روايتها عن زوجها الراحل.
قالت: أحببته وأحبني ونحن أحياء، تراحمنا في الدنيا قبل الآخرة. لم تقتصر محبتنا على التقدير عقب الرحيل. لقد اشبعني معاملة حسنة، بل كان يدللني بدرجة تثير أحقاد من حولنا لكنه لم يكن يعبأ مهما أحذره، بل يقول :«لم أتزوجك عُرفي لأحبك في السر فيما أدعي التجبر عليك في العلن لأثبت عنترية ترضي الناس وتغضب ربي بدعوى اتقاء عين أو إخماد غل الحاقدين».
وصفت لي تفاصيل اهتمامه بها، إذ كان يهتم بزينتها لدرجة أنه تَعلم كيف يبرجها أمام المرآة.
هي تحكي وأنا أدمع من فرط التأثر. قلت: بالطبع كنت ترتادين معه السينما؟ قالت: في يوم، ذهب لحجز تذاكر لنا، فأخبروه أن السينما محجوزة بالكامل للملك والملكة، فسأل عن ثمن حجز السينما كلها، فوجده مبلغًا ضخمًا بالنسبة لإمكانياته كترزي. وفي عيد ميلادها اصطحبها لدار السينما ذاتها وفوجئت وقد حجز لها القاعة كاملة كما يحجز الملوك لمليكاتهم بعد أن أدخر الثمن لعام كامل. صمتت أم محمود بُرهة وألقت برأسها للخلف فسألتها: أكنت تستعيدين لحظة دخولك السينما كملكة؟ قالت: لا، بل تذكرت أنني حينما جلست بجانب زوجي يومها، لم أهتم بمشاهدة الفيلم بل رحت أفكر، ترى لو كنت تزوجت الملك المعروف بمغامراته، فكيف كنت سأواجه نفسي كل يوم وأنا أحمل لقب ملكة لكني أُعامل كجارية، إذ ما جدوى أن أكون ملكة اسمًا، أمام الناس وفي الحقيقة أنا سيدة في منتهى الغلب والهوان، تعاني يوميًا بل أنيًا من معاملة قاسية من زوجها وتتجرع التهميش والازدراء والتحقير، في حين أن الله قد وهبني زوجًا دون أي عقد نفسية بل جعلني ملكة أمام نفسي في واقعي وأمام محيطي، حتى لو لم أحز اللقب، أو أمتلك القصر والتاج. لقد عشت ملكة حقيقية على عرش قلب زوجي، حتى أن مجرد ذكرياتي معه هونت كل مصائب الدنيا.. صحيح لم يهديني تاجًا ذهبياً، لكنه ترك لي كستبانه الفضي وهو بمثابة درع يصد عني خطوب الحياة.
بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
14/07/2018
6726