+ A
A -

مُحْزِنٌ أن تُذبَحَ بالسكين وتَجِدكَ لا تتوقف عن رسم ابتسامة تُعيد ترتيبَ معالِم الصرخة الْمُشَوِّهة التي تَنبت في فمكَ وتَتَرَبَّى في حضن الشفاه.. مُحزِن أن تُلْقي بك الأيامُ خلف قضبان سجنها البارد وتَجِدكَ لا تتوانى عن أن تَصدح بأغنية حُبّ عَذْبة لا يُقاومها صدأُ الآذان.. مُحزِن أن يُطَوِّقَكَ شيء مِن العالَم الآخَر الذي يُخَدِّرُكَ ويَقتل فيك الحياةَ، شيء من الماضي، وتَجِدك تُمَرِّنُ كَوْكَبَ أصابعك وقدميك على الدَّوَران مجدداً في الاتجاه الصحيح بعد أن يَستعيدَ الكوكبُ تَوازُنَ وَقْفتِه.. مُحْزِن أن تتراقص تحت عباءتك مخلوقاتُ عالَم غامض، عالم قاهِر، تَجهل عنه كل شيء، وتَجِدك تُواصل الصِّياحَ، تحت قُبَّة العبث، بشُموخ الدِّيك الْمَبْحوح، الديك الذي خانَتْه دجاجةُ الحياة ولم تَبِضْ له البيضةَ الْمُقَدَّسة..
شيء، بل كثير، مِن العبث يَبُخُّهُ في وجوهنا شاعر هارب مِن سباق ماراثوني بطله الزمن الذي لم تُخْطِئْه لعنةُ الحياة.. إنه بلند الحيدري، بلند الذي لم تَختلف حاله، في زمنٍ ما، عن حال قِطّ ضَلَّ طريقَه إلى بيته بعد أن ضَلَّتْ طريقَها إليه راحةُ النفس والسكون، فصال وجال كما تَفعل القطط التي تُعلِن العصيان في وجه سياسة السجون، والمدينة هي الأخرى سجن كبير:
«قَلِقا أسير مع الوجود كأنني
أمشي بأيامي على بركان
وهَجَرْت صبحي وهو مؤتلق السَّنى
أعمى يُكَفِّنُه دجى الحرمان
كبدي استحالَتْ قصةً لمدامعي
تُطوى فتَنْشرها يَدُ الأحزان..
فكأنني والدهر يَعبث ساخراً
بشبابي المتهدِّم الأركان
وَتَر بقيثار الحياة مُقَطَّعٌ
ماتَتْ على خلجانه ألحاني
يا موجة الأيام هذا شاعر
مضنى خُذِيه لشاطئ النسيان».
بلند الحيدري
مِن أين وكيف لبلند الحيدري أن يُذْعِنَ لهوى النفس الأمَّارة بإشعال رغباته في تَقَفِّي خُطَى فلسفته الخاصة، فلسفة حياةٍ ثانية غير تلك الحياة الأولى التي قادَتْه إلى مُنْعَرَجات التفكير في الانتحار هَرَباً مِمَّن يُجيدون لعبةَ التحكم، فما بالك وهُمْ يُمَهِّدون للتحكم في الأنفاس والإحساس، أنفاس بلند وإحساسه الذي لا أحد جسّ نبضَ اغترابه في دنيا تَتَفَوَّق في أن تَكسر، تَكسرك كسراً، ولا تُجَرِّب أن تُجْبِر؟!
«كل ما في حاضري يَصرخ بي
أيها المجنون، لا شيء هنا..
أيها الإنسان يا من دُسْتَني
دودة دنياك في كفي هنا».
بلند الحيدري
يَعظم العبث كلما ضاعَتْ منك خريطةُ المنطق والعقل، وتَتفاقم محنتُكَ مع الضياع في رحلة عُمْرٍ لا يُريد لك غير الانصياع للقوى القاهرة التي تَجتهد في طَمْسِ معالِم العقل والذاكرة..
«سَنُصَلِّي يا عصرَ الزيف
لزيف العراف
فالموت شراع
والصمت القاع..
والضحكة ألا نَفهم
ما نَفهم».
بلند الحيدري
ذاكرة العبث في حالة بلند الحيدري تَقول وتَقول، وليلُ الغربة في وطن غير الوطن لا تَجرّه خُيول، لكنه يمضي أسرع من البرق إلى ليل أَشَدّ سَواداً لِتَنْدَلِقَ أحلامُ الشاعر في بحر اليأس الثائر الذي لا تُعادِله إلا ملوحة التجربة، تجربة السَّفر في محيط الذات، علَّ القلبَ يَقوى على أن يُضَمِّدَ جراحَ الروح تمهيدا لالتئام ما أحدثَتْهُ التمزقات..
«يا قلبُ لا تَحلمْ
أخال الريحَ قد سَئِمَتْ عذابي
فتمرَّغت في بابي المهجور
ذكرى من شبابي
أما التي خفقت عل ماضيك بالصور
العذاب
فهي التي سدت عليك الباب
مذ نهبت رغابي
ولعل
لا أدري
لعل حياتها أمست كبابي
ليست سوى شفتين من خشب
وقلب من تراب».
بلند الحيدري
على مشارف مدينة الحُلم الغارقة في سديم النُّكران وعدم الاعتراف يُحاول الشاعر بلند أن يُثَبِّتَ ركائز مدرسة العبث ما أن يُلقي المعقول بنفسه مِن أعلى بُرْج التمني، وما الحياة إلا شكل وتجلٍّ من أشكال وتجليات التمني الذي لا يَستَدْرِجُكَ إلى ضِدِّه الصُّمودُ.
في شوارع القلب المنفي بعيداً عن اشتهاءات البشر نَجد أكثر مِن عمود نور واحد يُسمى الصمود، فلولاه لما تَمَكَّنَ صاحبُنا بلند مِن التأقلم مع فوضى الحواس المتفقة على أَلاَّ تُعيرَ الشاعرَ انتباها إلا في ظِلّ تحررها مِن قيود لعبة الحياة الكائنة بعيداً عن مدار عقارب ساعة الممكن التي أَقْنَعَنا الشاعرُ بأنها تَوَقَّفَتْ عند زمنه، لكن متى؟! بعد أن أَغْلَقَ المسكين بابَ قلب الحياة وألقى المفاتيح في البحر، بحر الانتصار لِما يُمْلِيهِ عليه قانونُ قلبِه لا قوانين طبيعةِ هوى السالكين لدرب الحياة، قريباً منه، بعيداً عنه..
«يا أنتَ
إني لن أعود
لن أَتْبَعَ الزمن الحقود يَمُرُّ بي
دون اعتذارِ..
يا أنتَ إني قد عبثْتُ ولم أَزَلْ طرباً بعاري
سيضيع عطرك في الفراغ..».
بلند الحيدري
كُفْرٌ بعريضة الحياة لا يَجد بلند مانعاً من إشهاره، حياة هي لا تستحق الحياة، هكذا يَراها، أو لِنَقُل على وجه الدقة: هكذا تَقُودها إليه خُطاها، ومن ثمة يَجدها تُجَرِّعُه مِن كؤوسها ما يلجم لسانَ رغبته فيها هو الذي ما عاد يَزْهُو بها أو تَهْذِي بها شفتاه، ولهذا باتَ يُمَجِّدُ الموتَ:
«يا أرض الموتى
مُوتي
لنصير بموتك كل الموت
موت الموت».
بلند الحيدري
ما جدوى أن يَحلم بالاستمرار إنسان يتساوى في عينيه الاثنان: حياته وموته؟!
ولأن شاعرَنا ما عادَتْ شجرة حياته تُزْهِر ولا تُورِق، فإنه وَجَدَ مِن الموت الرحيم أن يُنادي بالموت..
رغبة الإنسان في إسدال ستائر عرض الحياة لا تَأتي مِن فراغ، فهناك أمال تَنْكَسِر، وهناك جَرَّةُ أحلام تَتَحَطَّم، وهناك خيانة لِمَنْ حسبناهم توائم الروح، وهناك نهايات غير مُشَوِّقَة لِمَواسم لم تُكْمِلْ نَصْبَ خيمتها بعد..
حياة الغربة والضياع تَنْفي أوقاتك، وتُصَيِّرُكَ صغيرَ الحجم في عيون من لا يهمهم أمركَ، لكنك في عيون مَن يَعُونَ ويَفهمون ويتذوقون تَبدو أقرب إلى صفصافة.. هكذا بلند كان، صفصافة عراقية لا تُذَكِّرُنا إلا بجيل الزمن العراقي الجميل، الزمن العراقي الرقيق والراقي..
لَنْ يَتَبَدَّدَ عِطركَ يا بلند، ولن يَضيعَ في الفراغ.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
14/07/2018
3100