+ A
A -


قُلْ لَهُمْ يا بُلْبُلَ الإحساس كَمْ يَلِيقُ بي أنْ أَشْدُوَ معكَ وأُحَلِّقَ في سماء وَصْلِكَ بي وأَذُوبَ في بحرِكَ كقطعة سُكَّر يَحْلُو لها الغَرَقُ في أَبْعَد نُقطة مِنْ قاع فنجان قهوةٍ عربية.
ليس المقام مقام القهوة، لكنه مقام الإحساس، الإحساس الذي يَطيب لكَ أن تُعانِقَه في غاباتِ ذاتِ سَيِّدَةِ إحساسٍ تَقول لنا «سلاما» مِنْ قَلْبِ خيمة ألمانية، وإذا بِنَا نُبادِلُها التحية، التحية الصامدة في غير مواسم السلام الإنسانية.
يَنْبُوع إحساس مُسْتَرْسَل الأنفاس تَكُونُه الشاعرةُ الألمانية هيلدا دومين HILDE DOMIN، شاعرة هِيَ آثَرَت التضحية، التضحية في سبيل أنْ تُزهِرَ شجرةُ الشِّعر، التضحية بِكُلّ ما مِنْ شأنِه أن يُفْسِدَ خلوتَكَ إلى الحَرف ومُتْعتَكَ مع الحرف واستِئْناسَكَ بالحرف..
هذا التثمين لِرُوح الشِّعر خَوَّلَ للشاعرة هيلدا أن تَحملَ اسمَها جائزةٌ ألمانية تُخَلِّدُ مسيرتَها الإبداعية وتُتَوِّجُها بِتاج الاعتراف على امتداد مدينة الشِّعر الساحرة..
سنواتُ رصاص هيتلر المتزامِنَة مع تاريخ الشتات وقَمْع الحريات والتضييق على رِجال الثقافة ونِسائها كانَتْ أمَّارةً بالنَّيل مِنْ أهل الكَلِمة، ولذلك وَجَدْنا عددا من الكُتَّاب والشعراء والأدباء يَحملون حقائبَ حَظِّهم السَّيِّئ ويَرحلون مطرودين طَرْدَ القِطَط الْجَرْبَى بعيدا عن مَسْقِط حُلْمِهم الكبير ألمانيا، وكانت الرقيقة هيلدا دومين واحدة مِن هذه المجموعة المنبوذة التي جَرَّبَت الاحتراق تحت شمس الغُربة التي فَرَضَها عليهم بالقوة كبيرُهم هيتلر..
أنْ تَتَنَفَّسَ الحياةَ مِنْ عين إبرةٍ، هذا مصيرك لو كنتَ مِنَ المحكوم عليهم بالقَسْوَة جَلْداً بِسَوْط الغربة، الغربة التي تَقِفُ أمامَك كالغول الذي يُجَمِّدُ فيكَ الحركةَ والأنفاس، فكيف الحال وأنتَ سيِّدُ الإحساس؟!
الذينَ خَبَرُوا الغُربةَ يَعرفون كما تَعرف هيلدا دومين أن الوطنَ يَزْهد فيكَ، يزهد فيكَ ويَلفظكَ عندما يَخونكَ رِجالُه على الوَرَق لا صُنَّاعُه الأحرار، رجالُه الذين يَتَحَكَّمُون في الماء والهواء ونَصيبِك مِنَ الشمس التي تَتأمَّلُ المهزلةَ مِنْ أعلى السماء..
الخَوَنَةُ يَسرقون قطعةً مِنْ قلبِكَ يَكونُها وطنُكَ، كما أنتَ تَكون قطعةً مِن قلبه.. الخونة لا يَعرفون طريقا إلى العدالة، لذلك يُصَيِّرُونَ الوطنَ معادِلا للبَقَرة الحَلُوب التي مِنَ الكثير عليكَ أن تَعرفَ الطريقَ إلى طَعْمِ لَبَنِها..
هذا حَظُّ الْمُثَقَّفِين على مَرِّ تلك السنين التي وقفَ لهم فيها هيتلر وقفةَ العصا، فَطَرَدَ الأدباء وجَوَّعَ الأبرياء منهم وعَمِلَ على تَفْقِير الفُقَراء بعد أن جَرَّعَهُم الذُّلَّ وأَهانَهُم كما يُهانُ العبدُ في غير زمن العبودية..
كيف لكَ أن تَمُدَّ الخُطى إلى قلبِ الوطن مِن وراء البحار والجبال التي تَفْصِلُكَ عن الوطن؟!
كيف لكَ أن تَصمدَ في وجه الريح، الريح العاتية، وكيف لكَ هاربا أنْ تَستريح؟!
كيف لكَ أن تَزرعَ وردةً أنتَ الذي بطشَتْ بكَ العيون الجافَّة والأَيْدِي الخَشِنَة التي لا تُتْقِنُ غير لُغَة الشوك؟!
ما عانَتْه هيلدا دومين، ومَنْ هُمْ على شاكِلتها، تَجَسَّدَ جَلِيا على صعيد النص الشِّعري الذي أجادَت التعبير فيه مبنى ومعنى، ولا غرابة أن تَتصاعدَ مِنْ هذه النصوص رائحةُ الحرمان والحنين والحزن، والأهمّ مِنْ كل هذا رائحة الحكمة، وما الحكمة سِوى نِتاج تاريخ مِنَ التَّأَمُّل.
أنْ تُعايِنَ الحياةَ مِن شُرْفَةِ التأمُّل، هذا ما يَفعلُه الْمُبْعَدون والْمَطْرودون، ولا شكّ في أن نتيجةَ رحلة المعايَنة هذه ستَجعلكَ تَفهم يَقيناً المعنى الحقيقي لِثُنائية الوجود والعَدَم، وبالتالي تَقف أنتَ عند حجمِكَ الحقيقي، لا حجمكَ كما تُصَوِّرُه لكَ العقول الزاهدة في أن تَرى ما عليها أن تَراه وليس ما تُريد أن تَراه.
ذاكرةُ زمَن الخوف ماذا سَتَحمِل مِن مَشاهِد أكثر مِن اليأس والخذلان والإحباط والتهميش والرغبة في الفِرار مِنْ مَوعِد مع الإبادة، إنه الْمَنْفى الإجباري الذي كان في انتظار مَن يهمّهُم الأمرُ قبل أن يَختارَ لهم القَدَرُ مَنْفاهم الأخير خارج أسوار الوطن الأُمّ..
حنين جارِفٌ إلى أشجار الوطن لا يَغيب عما كَتَبَتْه هيلدا، وخيبة كبيرة، كبيرة كأحزانكَ، تُغَلِّفُ ما افْتَقَدَتْه هيلدا وهي تَشدُّ الرِّحال إلى ما وراء وطنٍ غالٍ. هل هذا ما يَقوله في رسالة مضغوطة إلى القارئ نَصُّها «عودة السفن»؟!
تَتحدث هيلدا عن التوقع الذي أَلْقَى بِنَفسه مُجْبَراً على سطح السفينة الموعودة بِرَحيل، تَتحدث هيلدا عن وجهٍ شِبْه مَيِّت مازال يُقاوِم الدرجةَ الصفر من الحركة فيكَ، وجه لا يَقْوى على لجم لسان عينيه، تَتحدث هيلدا عن كل شيء ستَحسبه أنتَ ماتَ فيكَ وما ماتَ هوَ، اُنْظُرْ، انظُر إلى هيلدا تُؤَكِّد لكَ أنَّ ما مِن شيء يَموتُ إنما يَنامُ هو، تَتحدث هيلدا عن كل شيء يَعِدُ بِعَودة، لكنها عودة على غير طريقة ما قبل العودة، تَتحدث هيلدا عن السفينة الآيلة للعودة، تتحدث هيلدا عن الشجر الطالع مِن أعماقِكَ أنتَ المغروس في بِرْكَةِ دَمٍ ضاربة فيها جذورُ جُرحِكَ..
رغم كل هذه القَساوة ترقَّبْ شيئا مِنْ طَعْم الحلاوة، لكن مِنْ أينَ لكَ يا محظوظُ أنْ تُمَيِّزَ عُذوبةَ الماء مِن مُلوحة الدِّماء؟!
لَحْنُ الرحيل تَعْزِفُه هيلدا دومين على أوتار مَذْبوحة، صحيح هيَ رحلَتْ كما يَرحل كُلُّ شيء، حتى المساء الشاحب الذي يَجرّ قدميه مطأطِئ الرأس، لكنَّ رحيلَ الشاعرة، الشاعرة حَقّاً بِحُرقة الرحيل، يَبوح لنا بالممكِن المستحيل: لا شيء يَرحل كُلِّيا أو لِنَقُلْ بصفة نهائية، فحتى عندما رَحَلَت الشاعرةُ كان رحيلُها يُداني صورةَ الشجرة التي قَد يَحدُث أن تُغادِرَ لكنَّها تَتْرُك جُذورَها راسخةً في ذاكرة الأرض.
حَياةُ الغُربة لا تَخرج عن طريق صَعْب، طريق ستَجِدُ نَفْسَكَ تَمْشي فيه وحيدا. هل جَرَّبْتَ طريقا كهذا؟! مِنَ المؤَكَّد نَعم.. هيلدا هي الأخرى تَقول لكَ: «صَدَقْتَ القولَ».
هيلدا صَدَقَتْ بالْمِثْل، فَأَقْسى الطُّرُق نَعْبُرُها بِمُفْرَدِنا، فَلْتَعْمَلْ بنصيحة هيلدا، ولا تَنْسَ أنْ تَقْبِضَ بِحُبٍّ وأَمَل على شمعةٍ بِيَدِكَ، ولا يهمُّ أنْ يَخفتَ ضَوؤُها، فقط مَنِّ نَفْسَكَ بموعِد مع الشمس.
لكنْ، أَمازالَ بعيدا الطريقُ إلى الشمس؟!
لا تَسْأَلْ هيلدا، اِسْأَلْ نَفْسَكَ.
بقلم: د. سعاد درير
copy short url   نسخ
30/06/2018
3268