+ A
A -
لا تزال الإدارة الأميركية، برئاسة الرئيس دونالد ترامب، تواصل سياسة فرض العقوبات الاقتصادية والمالية ضد الدول التي ترفض الانصياع لقراراتها وتوجهاتها، وتواصل أيضاً شن الحروب بالوكالة، وتنقلب على العولمة وتعود إلى سياسات الحمائية الاقتصادية التي تسببت ببدايات اندلاع حرب تجارية كبرى بين الصين وأميركا من جهة، وبين أوروبا وأميركا من جهة ثانية. لكن قدرة أميركا على تحقيق أهدافها من وراء هذه السياسات والعمل على إخضاع الدول التي ترفض هيمنتها وتعارض سياساتها التي تتعارض مع مصالحها، باتت أضعف من أي مرحلة سابقة؛ ففي حين أن سياسة فرض العقوبات أصبحت لها تداعيات سلبية على الاقتصاد الأميركي، وليس فقط على الدول المستهدفة من سياسة العقوبات، والعودة للحمائية في الاقتصاد لا يمكّنها من استعادة معدلات النمو العالية التي بلغت بعد الحرب العالمية الثانية عتبة الـ 60 بالمائة من الاقتصاد العالمي، فيما هي الآن دون الــ 18 بالمائة،
وعلى الرغم من عودة واشنطن إلى الحمائية فإن معدلات نمو الاقتصاد الأميركي لم تتجاوز 2.5 بالمائة، وهي نسبة متدنية بالقياس إلى نسب النمو في الصين 7 بالمائة ومجموعة آسيان 5 بالمائة والهند 6.5 بالمائة.. إلخ، وهذا أمر طبيعي، فالدول المذكورة باتت تصدر كميات من السلع إلى الأسواق العالمية أكثر مما تصدره الولايات المتحدة، والدول المذكورة لا يترتب عليها مديونية ترهق اقتصادها وتسبب العجز في ميزانيتها، كما هو حال أميركا التي باتت أكبر دول مدينة في العالم حيث تجاوز دينها العام عتبة الـ 18 أو 19 تريليون دولار متخطياً بذلك حجم ناتجها القومي المقدر بـ 15.5 أو 17 تريليون دولار بأحسن التقديرات.
وفيما أميركا تجهد من أجل حماية اقتصادها عبر الخروج من دائرة العولمة سعياً إلى الحد من مضاعفات أزماتها، فإن الدول الأخرى القوية اقتصادياً، بما فيها أوروبا تتوسع في اقتصادها وتتمسك بسياسة العولمة، وهذا أمر يقود بطبيعة الحال إلى جعل أميركا في حالة صراع وتنافس اقتصادي مع هذه الدول، ما يقود إلى مزيد من التحولات الاقتصادية العالمية التي تصب في مسار تحرر العالم من قبضة الهيمنة الأميركية.
فالصين باتت اليوم القاعدة الاقتصادية العالمية الكبرى في العالم، فهي تجاوزت عام 2016 حجم الاقتصاد الأميركي الذي كان يحتل المرتبة الأولى عالمياً لتصبح الصين هي الدولة الأولى اقتصادياً من حيث حجم ناتجها العالمي. في وقت تشكل فيه الصين السوق الكبرى في العالم نتيجة أن عدد سكانها يتجاوز المليار وأربعمائة مليون نسمة وقدرتهم الاستهلاكية بتنام مستمر بفعل تحسن مستوى الحياة ومعيشة السكان، ما يجعل دول العالم تتسابق على إقامة العلاقات الاقتصادية مع الصين وتتطلع الشركات إلى مزيد من الاستثمار فيها.
أما هيمنة الدولار على السوق العالمية فإنها آخذة بالتراجع رويداً رويداً؛ ففي حين تعمل الدول على تنويع احتياطاتها النقدية في إطار سلة من العملات فإن دولاً أخرى بدأت تعتمد العملات الوطنية في مبادلاتها التجارية، وبعض الدول النفطية، والتي تشتري النفط بدأت تبيع برميل النفط إما باليورو أو بالعملات الوطنية، أو مبادلة النفط بمواد وسلع مما يقلص من اعتماد الدولار في المبادلات التجارية الدولية. يحصل ذلك في وقت تتطلع فيه الصين إلى أن تحل عملتها اليوان محل الدولار انطلاقاً من أن اليوان يستند إلى أكبر اقتصاد عالمي من حيث التصدير والاستيراد، الأمر الذي يمكن بكين من أن تفرض عملتها وسيلة تبادل للسلع والمنتجات مع الدول التي لها علاقات تجارية معها، كما تستطيع أن تفرض شراء النفط بواسطة اليوان بدلاً من الدولار، لاسيما أنها باتت أكبر دولة مستوردة للنفط.
إن ما تقدم يؤشر بوضوح إلى أن أميركا تتجه نحو مزيد من الانحدار في اقتصادها وفي هيمنتها، في حين أن العالم يتجه نحو واقع اقتصادي جديد.
فدول العالم أصبح لديها خيارات متعددة في إقامة العلاقات الاقتصادية، وكل دولة متضررة من سياسة العقوبات الأميركية، أو تسعى إلى التحرر من هيمنة أميركا، أو هي ترفض هذه الهيمنة وتملك استقلالاً اقتصادياً وسياسياً، لم تعد مجبرة على التعامل مع أميركا، لقد أصبح لدى هذه الدول مروحة واسعة من العلاقات الدولية البديلة عن الولايات المتحدة.
وكلما أمعنت واشنطن في سياسة الضرب بعرض الحائط مصالح دول العالم عبر محاولة إجبارها على الرضوخ لطلباتها وإملاءاتها، أدى ذلك إلى مزيد من تمرد الدول على الهيمنة الأميركية واتجاهها نحو إقامة علاقات اقتصادية مع دول أخرى توفر لها ما تريده في إطار من التعاون المشترك والاحترام المتبادل غير المتوافر في العلاقة مع أميركا.
إن ما يجري هذه الأيام من تحولات اقتصادية كبرى على المستوى العالمي، والمترافقة مع تبدلات في موازين القوى العسكرية والسياسية، يؤكد أن سعي واشنطن إلى تعويم هيمنتها الأحادية ورفض الإقرار بالوقائع الدولية الجديدة لن يؤدي سوى إلى مزيد من إضعاف مكانة وهبية أميركا وإلحاق الضرر باقتصادها، ودفع دول العالم إلى التراصف في مواجهتها وبناء مؤسسات مالية جديدة بديلة للمؤسسات المالية التي تخضع لسيطرة وهيمنة أميركا، وصولاً إلى إجبار واشنطن على التسليم بموازين القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية الجديدة التي لم تعد تسمح لأميركا بالاستمرار في التربع على عرش العالم.
copy short url   نسخ
23/06/2018
1806