+ A
A -
هبت رياح التكفير على الخليج، فما سلم منها أحد: مفكراً ناقداً أو كاتباً حداثياً أو فناناً مبدعاً أو داعية إصلاحياً، فتهمة الردة والخروج عن الدين كانت تطلق بإسراف من قبل خطباء ووعاظ ودعاة ضد كل مفكر ومجتهد، بل حتى الفنانين بسبب أعمال درامية تناولت ظواهر التطرف والعنف باسم الدين، وسعت إلى تشخيصها وتفكيكها، بهدف تحصين المجتمع والشباب من مد الغلو والتشدد.
ظاهرة التكفير، آفة قديمة ممتدة إلينا من عصور التخلف الحضاري، وهي مرض عضال عانت منه المجتمعات العربية جميعها، وهي لم تقتصر على النخب الفكرية والدينية، بل تجاوزتها إلى البيئة المجتمعية التي تقبلت قطاعات متشددة منها فكر التكفير، تحت تأثير منابر مروجة لخطاب التكفير، وقنوات فضائية سوغت تهم التشكيك في معتقدات الفرق والمذاهب الأخرى ومن سمتهم العلمانيين والحداثيين المنبهرين بالغرب، بمبررات سياسية ودينية، وأبرزت دعاة التكفير نجوماً جماهيرية لهم اتباع وأنصار، ومواقع اجتماعية صحوية صنعت رموزاً شعبوية، لها آلاف المتابعين المضللين.
يعجب المرء لدين، يقول قرآنه لرسوله عليه الصلاة والسلام (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً) ويقول رسوله الكريم من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار كيف لا يكون خطابه الدعوي أكثر تسامحاً وقبولاً لكافة المؤمنين؟!
هناك العشرات من النصوص الدينية التي تحذر من تكفير من نطق بالشهادتين، بل وتتوعد من يرتكب هذه الجريمة، فكيف يتجاهل دعاة التكفير، تلك النصوص، وكيف يجازفون بإطلاق حكم الجاهلية على المجتمعات الإسلامية؟! ألا يخشى هؤلاء الغلاة عقاب الله تعالى؟!
وإذا كان المولى تعالى لم يمكن رسوله، عليه الصلاة والسلام، وهو من هو مكانة وعلواً وقرباً، أن يتسلط على الضمائر لست عليهم بمسيطر، لأن الهداية من عند المولى تعالى، كما نفى سلطة الرسول في محاسبة الناس ما عليك من حسابهم من شيء، فكيف يتجرأ هؤلاء المغالون على التسلط على الضمائر، ومحاسبة الناس على معتقداتهم، وعلى ما يكتبونه أو ينشرونه أو يغردون به، لمجرد شبهات عرضت لهم؟!
إن التكفير هو بوابة التطرف والإرهاب، وما تفشى الإرهاب في مجتمعاتنا، وتناسلت التنظيمات الإرهابية وانتشرت، إلا نتيجة فوضى التكفير، ما كانت مجتمعاتنا بهذا العنف والتطرف قبل تصاعد ظاهرة التكفير عبر المنابر والقنوات والمواقع الإعلامية، كان العلماء والمشايخ، قديماً، يتورعون ويحذرون من تكفير مسلم مهما شذ واشتط في قول أو رأي إذا أمكن حمل كلامه على وجه حسن ولو بنسبة واحد في المائة، تحسيناً للظن بالمسلم، ولكن وفد علينا من تساهل في التكفير، في مخالفة صريحة للنصوص.
إن الذين التمسوا أعذاراً للمكفرين الإرهابيين الذين وقعوا في قبضة العدالة وحكم عليهم بالسجن، بالقول بأن الذي دفع هؤلاء إلى تكفير مجتمعاتهم وحكامهم، هو التعذيب الذي لقوه في السجون، مخطئون تماماً، لأن تكفير هؤلاء لمجتمعاتهم وحكامهم، وإفسادهم في الأرض، سابق على وقوعهم في قبضة العدالة، بل إن التماس الأعذار للمكفرين القتلة، بحجة أنهم فتية آمنوا بربهم، صوامون، قوامون، صادقون، لكن ساءهم ما رأوه في مجتمعاتهم من ردة فكرية، وتسلط العلمانيين على الإعلام، وخروج المرأة وتبرجها، وتساهل الحكام، وعدم الاحتكام إلى الشرع، كل هذه الأمور دفعتهم إلى التكفير والخروج المسلح، فهم معذورون، صادقون في أهدافهم، لكنهم أخطأوا الطريق وكفروا المجتمع والحاكم، فهذا التبرير المداهن للمكفرين والإرهابيين، من قبل رموز الصحوة، وخطباء الوسطية والاعتدال، هو الذي ساعد على انتشار حمى التكفير وانتشار خطاب الكراهية والعنف والتطرف انتشار السرطان الخبيث في مجتمعاتنا.
ختاماً: كيف يمكن تجديد الخطاب الديني، إذا كان خطباء بارزون محسوبون على تيار الوسطية والاعتدال، ظاهروا دعاة الكراهية والفرقة والتطرف، وساقوا أعذاراً ومبررات سياسية وشرعية واجتماعية لهم؟!
لا حل أمام الجميع إلا بأن يتسع صدورنا لبعضنا بعضا، والتسامح، والتعاون، ونبذ تهم التكفير والتشكيك والتضليل والتبديع، ولندع الحكم على الآخرين المخالفين لنا، والتفتيش على ضمائرهم، ومحاسبتهم، إلى المولى تعالى (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة).

بقلم : د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
04/06/2018
3313