+ A
A -
بلدي غزة في رمضان «حدّوتة فلسطينية» لا تخلو من الذاتية، ولا تخلو -كذلك- من التفرُّد الذي تنتظم في أفيائه بلداتٌ عربيّاتٌ أخرى، لأن هذا الشهر الفضيل تمتزج فيه روحانية الشرق، وعتاقة الماضي، بمسكه، وبخوره، وحكاياته التي ترويها لنا الآثار الشاهدة ُ، على حضاراتٍ سادت، ثمّ بادت على أرضنا العربية.
أحنّ إلى غزة في رمضان، حيث إنني لم أعشْه هناك، منذ زمنٍ بعيدٍ، قارب على جيليْن.
واليوم شاهدتُ شريطاً تليفزيونياً يصوِّر أجواءَ بلدي في رمضان، ورغم الحصار المرّ، وظروف المعيشة القاسية هناك، إلا أن الحياةَ التي عهدتُها تسير على وتيرتها: شوارعها النظيفة، وأسواقها العامرة بأطايب الشهر الفضيل، وباعة الخرّوب، ومساجدها التي تمتلئ بالمصلّين، ومحلات الحلوى التي تعرض أطايب أنواعها، وما اختُصّت به، ككنافة الجوز الغزاوية، وهي ماركة مسجلة باسم غزة، لم أذق لها مثيلاً في البلدات العربية الأخرى التي تشرفت بزيارتها..وتبقى هذه الكنافة من أوراق اعتماد بلدي غزة، تتوارث صنعها عائلاتٌ بعينها.
غزة يا حماس وفتح موجودة وشاهدة قبل أن تتشكّلا فصيليْن متناحريْن على الأرض: تتنازعان، وترهقاننا خصومةً، واقتتالا، تُشمتان بنا الأعداء، وتتعبان قلوب الأبناء والأصدقاء.وستبقى بعدكما على شموخها وكبريائها، وطبيعة أهلها السويَّة، غير المتحزِّبة، أو المنحازة.
غزة التي تعيش تحت جلودنا، ونذوب شوقاً لأزقّتها العريقة العتيقة، حول الجامع العمريِّ الكبير، وسوق خضارها العتيد، وما تحفُّ به من متاجر، تتنوّع بضائعها، ولكنها تلتقي في سمتها وصفاتها، وناسها الطيِّبين المجتمعين في مقهى بلبل حول أنفاس الشيشة العجمي، وأكواب اليانسون، أو أطباق الحمّص في مطعم الكباريتي، أو أسياخ كباب الكفتة في ملحمة الشوا، أو سهرات السمر والشعر، وثرثرة السياسة مع الحبايب في مقاهيها العامرة، سواءٌ في قلب المدينة، أو أطرافها، أو كازينوهات الشاطئ.
هذه غزة يا من تعرفون فضلها، ويا من لا تعرفونه، باقيةٌ بعطرها الكنعانيِّ، وعطر دماء شهدائها التي لا يتوقف نزيفها، تستقبل رمضان جديداً، بكل ما عُهد فيها من كرمٍ، غيرِ مُتَكَلَّفٍ، وجودٍ أصيلٍ، وقائمةٍ مشرِّفةٍ من الرجال عبر العصور.
وحين أكتب عن غزة، يسبقُ تدفُّق العاطفةِ حوارَ العقلِ، ورغم ذلك فإنني أكتب مزاوجاً ما بينهما، فأؤكد أن بلدي غزة، ومن قدّمت من القامات المتميِّزة، في شتّى العلوم، والفنون، والآداب، تبقى علامةً فارقةً في نسيج مجتمعنا العربي القومي.

بقلم : حسن شكري فلفل
copy short url   نسخ
01/06/2018
2254