+ A
A -
عشرة الناس خير وسيلة للتعرف عليهم. هي المدخل المباشر للعلم بالآخر ونافذة للخبرة التي نكتسبها من مخالطتهم. وبحكم عشرة مهنية ممتدة مع كثير من المثقفين العرب، فقد حظيت بفرص ساعدتني على فهم هذه الكتلة الحيوية من البشر. وإذا كان المثقفون العرب، مثل غيرهم، يتجادلون ويخوضون معارك فكرية قوية ضد بعضهم، وهذا طبيعي وصحي، إلا أن فريقاً منهم يقع كثيراً في تصرفات غير صحية باتت للأسف تشيع وتتفشى من بينها عشرة هي باختصار كما يلي:
أولاً: الأنا المتضخمة والزهو الجارف بالذات لدى نفر يرى في نفسه طبقة خاصة تضم مثقفين فوق العادة. ولا يتعارض هذا الكبر والغرور مع رسالة الثقافة فقط وإنما يؤسس لاتجاه معيب يجعل الذات وليست الفكرة محور اهتمام المثقفين. ساعد على ظهور تلك السلبية المعيبة اجتذاب وسائل الإعلام للمثقفين الذين راح بعضهم يميل إلى الاستعراض وتسويق نفسه أكثر من اهتمامه بنقل رسالة الثقافة التنويرية إلى المجتمع والتي تحتاج إلى متواضعين وليس متضخمين.
ثانياً: الانحباس الأيديولوجي حيث يعتقد البعض أن الثقافة ليست إلا ترويجاً لعقيدة ودفاعاً عن أيديولوجية. وهذا ليس من الثقافة في شيء وإنما هو التبشير بعينه. فالثقافة فضاء رحب يتسع لكل صور التنوع. كما أن المثقف لا يكون فاعلاً إلا إذا عرف كيف يعد المجتمع للتعايش مع كل مختلف. ومع أن بعض المؤدلجين قد يكونون من كبار المثقفين إلا أنهم قلما يفيدون الثقافة. فقد يُلمون بشتى الاتجاهات والأفكار إلا أنهم لا يكلون عن حمل الناس على تبني فكرة بعينها لا لشيء إلا لأنهم يعتبرونها قناعتهم التي لا تقبل الاختلاف.
ثالثاً: الشراهة المالية. فهناك مثقفون يُشترون بالمال وآخرون يسعون إليه بكل السبل. بل ومنهم من باع نفسه لشركات وحكومات وجماعات. وليس مطلوباً من المثقف أن يكون قديساً متقشفاً. لكن ليس متصوراً منه أيضاً أن يبيع الفكر من أجل المصالح. وبكل أسف بات جانب من صراعات بعض المثقفين العرب الكبار يشتعل ويستعر من أجل المال لكنهم يحاولون التكتم عليه بستار الفكر.
رابعاً: التعلق المرضي بالأضواء. وهو عيب انتشر في ظل الاعتماد المكثف لوسائل الإعلام على المثقفين. بعض المثقفين يريد أن يكون وبأي شكل هو المثقف الأبرز أو الأكبر أو العلامة والمرجع. وهذا من حق كل شخص طموح لكن بشرط بسيط هو أن يأتي ذلك باعتراف الأقران وليس بتسويق الإعلام.
خامساً: خطأ تقدير العلاقة بالحكومات بين من يبالغ في الاقتراب منها ومن يبالغ في استعداء الناس عليها. أما الحكومات فلا تمثل في الثقافة إلا موضوعاً للبحث والتفكير وليست هدفاً لا للإشادة أو العداء. لكن كثيراً من المثقفين أساءوا التقدير فوقعوا إما في عداءات لا طائل من ورائها أو مارسوا تزلفاً لا ضرورة له.
سادساً: الشللية، ووقع فيها كثير من المثقفين إما المتزمت منهم فكرياً أو صاحب الغرض والمصلحة. والمثقف ليس باليقين ملاكاً لأن له ميولا تجعله يبحث عن طيور على شاكلته. لكن المفترض في طيور الثقافة أن تحلق عالياً قدر إمكانها حتى ترى المشهد بأكمله وأن تعرف ظروف المجتمع بتفاصيلها وليس كما تصوره شلة أو مجموعة.
سابعاً: رفض الآخر وهو عيب متصل بالشللية لأن من يحبس نفسه في جماعة لن يعرف كيف يتعايش مع غيره. وهو عيب جسيم يمنع المثقف من أن يكون أداة الجمهور في اختبار الآخر والانفتاح عليه والتعايش معه وليس الترويج لكراهيته والابتعاد عنه.
ثامناً: تراجع التعفف الخطابي سواء بين المثقفين وبعضهم أو بينهم وبين الناس. باتت اللغة تتسم بقدر ملحوظ من الخشونة مع أن المفترض في المثقف أن يعصم نفسه فلا يجاري الغضب بالغضب وبألفاظ حادة لأن ذلك لا يُدمر فقط الخطاب الثقافي وإنما يُخرب المجتمع بأكمله.
تاسعاً: التوحش السلوكي وهو امتداد للخشونة اللفظية. فكم من صراع فكري انتقل بين المثقفين من الحوار الهادف إلى المحاكم بل وإلى الشوارع أحياناً. وما أكثر المكائد والفتن بين المثقفين وبعضهم.
عاشراً: الاعتكاف في البرج العاجي. فبرغم ما يملكه كثير من المثقفين العرب من كفاءة وخبرة تؤهلهم للخدمة الجماهيرية إلا أنهم يبقون أصحاب جلد رقيق لا يتحملون الاحتكاك بالسلطة أو الصبر على سخرية المجتمع.
هذه الأخطاء العشرة ليست إلا بضع علامات تذكر بأن المثقفين بشر كما ينتجون من جانب رحيقاً يغذي العقل فإنهم يحدثون من جانب آخر أثاراً سلبية قد تدمر المجتمع. ومع أن المثقفين العرب من بين ضحايا بنية سلطوية تاريخية لطالما ظلمتهم، إلا أن ما يقع فيه كثير منهم بنفسه من أخطاء يجعلهم أحد أبرز المساهمين في ترسيخ تلك البنية.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
21/05/2018
3293