+ A
A -
تأسست حركة القومية العربية، منذ ظهورها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على مقولة محورية مفادها أن الشعوب العربية الموزعة على أقطار عدة تمتد من المحيط إلى الخليج، تشكل أمة واحدة، ومن ثم فعليها أن تسعى إلى إقامة دولتها القومية الموحدة.. وبهذا تكون الحركة القومية العربية قد حددت هدفها الأساسي، وربما الوحيد، وحصرته في العمل على نقل العالم العربي من واقع التجزئة المعاش، والذي كرسه الاستعمار الغربي بإقامة حدود مصطنعة بين الدول والشعوب العربية، إلى حلم الوحدة المنشود..
ولأنه تعين على الآباء المؤسسين لهذه الحركة تبرير دعوتهم الوحدوية في واقع يتسم بالانقسام والتشرذم، فقد تركز جهدهم الفكري في البداية على بحث مقومات الوحدة بين الشعوب العربية، بالعمل على إثبات أن وحدة اللسان والتاريخ المشترك، وليس الأصل العرقي أو الإثني، يشكلان الأساس الفكري لهذه الحركة.. وفي سياق هذا الجهد الفكري جرى الترويج لمقولتين مترابطتين ثبت خطؤهما بعد ذلك:
الأولى: أن غياب الوعي القومي لدى الشعوب العربية هو الذي أدى إلى تكريس واقع التجزئة، وبالتالي فإن استعادة هذه الشعوب لوعيها المفقود بعروبتها سيؤدي تلقائياً إلى تحقيق الوحدة السياسية بينها.
الثانية: أن الدولة «القطرية» هي العقبة الرئيسية التي تعترض طريق الوحدة العربية التي لن تقوم إلا على أنقاض هذه الدولة التي تكرس واقع التجزئة.
واقع أننا حين نسترجع تلك الأطروحات على ضوء ما يجري حالياً على أرض الواقع في مختلف أنحاء العالم العربي، ندرك على الفور أنها كانت أطروحات مغرقة في رومانسيتها.. لذا يمكن القول إن الفكر القومي العربي، رغم ما قدمه من إسهامات عميقة في إيقاظ الوعي بالعروبة، قصر كثيراً في تشخيص واقع التجزئة والعوامل التي تساعد على تكريسه، وما ينطوي عليه هذا الواقع من تحول دون تحقيق الوحدة، ولإلقاء الضوء على السبل والآليات الكفيلة بالتغلب على هذه العقبات وتجاوزها.. إلخ.. ولولا هذا التقصير لتوصل الفكر القومي العربي إلى نتيجة مفادها أن الوحدة العربية لا يمكن أن تفرض وإنما يتعين أن تطلب عبر الاختيار الحر للشعوب التي تتطلع إليها، ولأصبح التيار القومي في طليعة التيارات الداعية إلى تحقيق الديمقراطية كشرط لا غنى عنه ليس فقط لتحقيق الوحدة العربية وإنما لحماية الخطوات التي تتخذ على طريق تحقيقها.. ومن الواضح أن إهمال التيار القومي لهذا البعد دفعه للاهتمام بالغاية على حساب الوسيلة، فوقع تحت غواية الشعارات المرفوعة وتغاضى عن تمحيص مضمونها، الأمر الذي دفعه في أحيان كثيرة لتأييد الانقلابات العسكرية التي رفعت شعارات وحدوية، وكانت النتيجة تفشي ظاهرة الاستبداد في العالم العربي دون أن تتقدم قضية الوحدة أو تحقق أي مكاسب في الوقت نفسه.. وهكذا تعين على التيار القومي أن يشق طريقه وسط تيارين نقيضين:
الأول: «وطني»، يرى في الدولة القطرية، حتى ولو كانت حدودها مصطنعة، وعاء طبيعياً للهوية والانتماء المشترك، وبالتالي ينكر الفكرة العربية من الأساس ويذهب في مقاومته لها حد استدعاء الحضارات القديمة والاحتماء ببريقها لتبرير خصوصية كل شعب عربي على حدة وللتدليل على أن القومية العربية دعوة للجري وراء أوهام أو سراب.
الثاني: «ديني»، يرى في الإسلام الذي لا يفرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى رابطة أقوى من أي رابطة أخرى توحد بين جميع أتباعه، ويؤكد من ثم على أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يشكلون «أمة واحدة» يفرض عليها دينها أن تتوحد سياسياً تحت راية الخلافة التي سقطت بانهيار الإمبراطوية العثمانية والعمل بالتالي على استعادة هذه الراية ورفعها من جديد!
غير أن إهمال المسألة الديمقراطية من جانب هذه التيارات الثلاث التي احتد الصراع بينها حول قضية الهوية والانتماء، أفضى إلى تبني رؤية استبعادية مهدت الطريق أمام تكريس الحكم الاستبدادي.. ولذا أصبح الطغيان هو السمة الرئيسية التي تشترك فيها جميع أنظمة الحكم العربية دون استثناء.
بقلم:د. حسن نافعة
copy short url   نسخ
10/05/2018
2418